
ألقى االدكتور ابو الصوف هذا الحديث في شهر شباط من عام 1985 في سلسلة الأحاديث التي ألقيت بمناسبة اليوبيل الألفي لاستشهاد القديس بهنام ورفاقه.في الشهر الماضي افتتح الأب الدكتور يوسف حبي أولى ندوات هذا اليوبيل بذكرى الشهيد بنهام ورفاقه الأبرار، من أصالة الحدث تاريخياً، ويظني أنه أجاد في ابراز حقيقة الحدث ونفض عنه الكثير من الأوهام العالقة بالمأثور الشعبي. في هذا الصباح سنحاول أنا وزميلي الاستاذ يوسف ذنون القاء بعض الضوء على حقيقة المخلفات الأثرية والمعمارية في مبنى الدير والضريح (الجب) والمرتفع الأثري الملاصق له سيتكلم زميلي الفاضل عن المعالم المعمارية والفنية في مبنى الضريح والكنسية والزخارف والكتابات التاريخية في كليهما. اما حديثي فسيقتصر على تبيان النقاط التالية بأختصار: 1.المرتفع الأثري وعلاقته بالضريح وكنيسة الدير وبالحدث ككل.. 2. الضريح في حضارة العراق القديم. 3.حقيقة ما يتناقله الماثور الشعبي حول النفق الذي يصل بين الضريح والعاصمة والآشورية نمرود. 4.ان ما تقدمه هذه الأدلة مجتمعة هو في الواقع تأكيد على أصالة الحدث وتاريخه. تل الحضر المجاور لكنسية دير الشهيد بهنام والذي يقوم ضريحة (الحب) عند قاعدته الشمالية، هو مرتفع أثري لا يتجاوز علوه خمسة امتار، طوله من الغرب إلى الشرق بشكل بيضي تقريباً. وهو بهذا الشكل والامتداد كل يوحي للناظر لأول وهله أنه ربما يضم بين طياته بقايا لبناء واحد وواسع مشيد من اللبن قد يكون كنسية أو معبداً وأن الاحتمال الأخير(أي كونه كنسية) كان يقوي عند المتطلع إليه بسبب شكله وامتداده(غرب- شرق) وطبيعة الأحداث التي ارتبطت بالمباني الكائنة قربه خاصة إذا ما علمنا بأن أشكال عمارة الكنائس كانت ولا تزال تأخذ هذا الامتداد في الغالب وبأتجاه الشرق. أن القطع بهذا الاحتمال كان سيجيب عليه التنقيب فقط وليس غير إذ أن سطح الموقع وسفوحه خالية تماماً من آية ملتقطات اثرية يمكن أن تدل على مكنوناته بسبب كثرة الزوار الذين برتادون المنطقة سنويا وعلى مر الأجيال . أن مناسبة الاحتفال باليوبيل المئوي السادس عشر لاستشهاد القديس بهنام ورفاقه الأبرار على أيدي الفرس الساسانيين الغزاة في القرن الرابع الميلادي كان فرصة مناسبة للتفكير بشكل جاد بالمخلفات البنائية في مجتمع الدير والضريح ومحاولة البت بالعلاقة التاريخية والأثرية وبينها وبين المرتفع الأثري(ان وجدت) خاصة الضريح والدير بصورة عامة. من الجلي الآن أن الضريح (الجب) بعمارته الحالية وربما الأقدم من ذلك بكثير قد شيد على بقعة من الأرض اقتطعت بالأصل عند القاعدة الشمالية للمرتفع الأثري وغاصت أسفل سطح أرض السهل المجاور بأكثر من ثلاثة امتار تقريباً. ان هذا الاقتطاع من اطراف المرتفع الأثري والبقعة المجاورة شرقاً وفرت لنا مجالاً رحباً لفحص مكونات التل وبعناء قليل استطعنا التعرف على يبطنه من قمته قاعة اسفل الشارع المجاور، وهي تمتد في أعماق الماضي حتى اواسط الألف السادس قبل الميلاد حيث تقوم أول وأقدم طبقة سكنية في هذا المستوطن والتي يرجع زمنها إلى المرحلة المعروفة لدى الآثاريين بعصر حسونة(أحد أول أدوار الفخار الأولى في مرحلة ما قبل التاريخ حيث بدأ العراقيون الأوائل في شمالي العراق تأسيس قراهم الزارعية) بعقبها من أعلى طبقات حلف والعبيد والوركاء(حيث بدأت أولى مراحل الحضارة العراقية الناضجة والمسماة بالسومرية نسبة للعراقيين الذين تكلموا اللغة السومرية في تلك الفترة) ثم جاءت طبقة سكينة سميكة إلى حد ما لتشير إلى مرحلة تواجد الاستيطان الأكدي في هذه البقعة من شمالي العراق(وهي زمن أول امبراطورية عربية في التاريخ اسسها العاهل الأكدي سر جون) اعقبتها من أعلى بقايا مراحل تاريخية عُرفت في المنطقة في الألف الثاني قبل الميلاد كالعهود الآشورية القديمة والوسطى والحديثة. كما نشاهد في المستويات العليا للموقع شواهد قليلة على زمن الاحتلال الفرثي والساساني الفارسي للمنطقة. بهذا نكون قد وقفنا على مكونات المرتفع الأثري المسمى بتل الخضر محلياً إذ أنه بدلاً من أن يضم بقايا بناية واحدة كما كان يظن، ظهر احتواؤه على بقايا لمراحل طويلة من ماضي قطرنا وعلى امتداد اكثر من ستة الاف سنة، وقبل أن تترك الموقع لحالة انتقلنا لفحص قمته (أي سطحه الواسع) وبقليل جهد تمكنا من اقتفاء آثار بقايا لجدار مشيد من الطابوق المربع الشكل(مقاساته 25×25×7سم) بمادة الجص يقع أسفل التل بعمق لا يتجاوز أربعين سنتمتراً. تأكد لنا عندئذ أن بقايا هذا الجدار بطابوقه المميز يعود لبناء أو أكثر من الفترة الاتابكية في أواخر العصر العباسي(القرن السادس الهجري- الثاني عشر الميلادي)وهذا الزمن يتفق تماماً مع زمن بناء الكنيسة الحالي والضريح، إذ أن اعداداً كبيرة من طابوق بهذا الشكل والمقاس قد استخدم في تشييد اجزاء ظاهرة من كنسية الدير والضريح ذات القبة. أن هذه الأعداد المميزة من الطابوق الاتابكي الداخلة في تشييد أو تجديد أقسام من الكنسية والضريح قد تكون منقولة من ذلك البناء الذي كان يقوم على سطح التل الأثري عند تجديد الكنسية والضريح في الفترة نفسها أيضاً، وعلى ما يظهر أن كلا من كنسية الدير والضريح قد جددا مرة أخرى في الفترة الالخانية اللاحقة (أواخر القرن الثالث عشر والقرن ارابع عشرالميلاديين ) إذ ان غالبية الطابوق المشيدة به جدران الكنسية الضريح هي من فترات لاحقة تعود لهذا العصر. مما مر اعلاه، يلاحظ أن المرتفع الاثري الملاصق لمبنى الضريح يعود لأزمان موغلة في القدم، وانه كان منتصباً بارتفاعه الحالي على الأقل حين وقوع الحدث ربما عند سفوحه الشمالية، حيث اقتطع في تلك البقعة التي حدثت فيها الشهادة قبراً جماعياً يضم رفات الشهيد ورفاقه، يرجع زمانه إلى أواخر القرن الرابع الميلادي(وهو زمن وقوع الحدث). هذا وليس من سبيل للوصول إلى ذلك الضريح الأول والتعرف على شكله وطرازه دون التنقيب أسفل أرضيات الضريح الحالي المجدد بعدئذ (فيما بعد القرن العاشر الميلادي على أبعد احتمال). مع هذا فباستطاعتنا التكهن الآن بأن ذلك الضريح الأول قد اقتطع وشيد عميقاً في الأرض على عادة القبور وأضرحة الفترة الهلنستسية السائدة أنذاك والذي هو أسلوب وعادة عراقية أصيلة وقديمة جداً في حضارة وادي الرافدين. إذ عرفناها منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد في الوركاء حيث اقتطع العراقيون في زمن جمد نصر حفرة في الأرض جوار معبد الإله انو من المدينة التاريخية وشيدوا ضريحاً مستطيل الشكل من الحجارة المهندمة للآله- الملك دموزي. كما فعل العراقيون القدامى أنفسهم الشيء نفسه في منطقة ديالي ومن نفس العصر أيضاً(جمد نصر) حيث تشاهد دكة مستطيلة تقريباً مشيدة من اللبن الصلد في مركز بناء دائري مسقوف، وتلف حول دكه الضريح هذه سبعة ممرات دائرية حيث كان يتم الطواف حول رمز الضريح الآله- الملك دموزي أيضاً في تل الكبة عند ملتقى نهر نارين بديالي في أخصب بقعة خضراء من حوض سد حمرين .ولا ننسى المقبرة الملكية في اور الغائرة في الأرض في اواسط الألف الثالث قبل الميلاد كذلك المقبرة الملكية في مدينة آشور والتي ضمت رفات مشاهير الملوك الآشوريين خلال الألف الثاني قبل الميلاد والتي نشاهدها غائرة في الأرض هي الأخرى إلى الجنوب قليلاً من منطقة الزقورة وقصر الاباء(القصر القديم) في العاصمة الآشورية الأولى.هذا وأن المقابر والأضرحة العديدة المنحوتة أو المشيدة تحت الأرض والتي كشفت عنها التنقيبات الأثرية على طرفي نهر الفرات في منطقة غمر حوض سد القادسية، والتي ترجع بأزمانها إلى أواسط الألف الأول قبل الميلاد وما بعده دليل واضح على استمرار هذه الطريقة من اقامة الاضرحة في قطرنا. وأن ضريح الشهيد بهنام ورفاقه الأبرار هو استمرار لهذا التقليد الحضاري. غير أن الضريح بشكله الحالي الذي هو عليه الآن بقبته العالية والدهليزين المنحدرين إلى غرفة الدفن من جهة الغرب حيث تقوم غرفة عالية تتألف من قسمين: المدخل في المقدمة يعقبه غرفة مربعة حيث تقام شعائر الزيارة ومن هذه الغرفة الأخيرة تنحدر عدد من الدرجات تقود إلى الدهليزين. هذا البناء بأكمله صيغة متأخرة على ما نعتقد للضريح الأول الذي يقوم في مكان ما أسفل البناء الحالي كما اسلفنا أعلاه. أن الحفرة الغائرة التي ظهرت في العام الماضي اثناء تسوية الأرض الكائنة بين غرفة الدفن والمرتفع الاثري تدلنا بشكل أكيد على مدخل الضريح الأقدم (الأول) الذي أن اردنا البحث عنه علينا النزول عميقاً أسفل هذه الحفرة باتجاه القبر. بسبب وجود فتحة مدخل صغيرة تقود إلى فجوة في الحنية الجنوبية لغرفة الدفن معقودة بطابوق صغير الحجم من فترة لاحقة للفترة الاتابكية ( زمن تجديد الضريح والكنسية)، ساد الاعتقاد الشعبي عن وجود نفق تحت الأرض يصل بين الضريح والعاصمة الآشورية الثانية نمرود، والكائنة على بعد يزيد عن عشرة كيلومترات غرباً، أن مما يعزز هذا الاعتقاد لدى البعض ما جاء في المأثور الشعبي الذي نسج حول حدث الاستشهاد وربطه بسيدة نمرود في ذلك الزمن، وهي زوجة الحاكم الساساني وأم الشهيدين بهنام واخته سارة وانها كانت تأتي خلسة لزيارة قبر ولديها ورفاقهما عبر ذلك النفق. أن طبيعة المنطقة التي تفصل بين المكانين وتضاريسها والمسافة بينهما لا تسمح باقامة مثل هذا النفق مطلقاً. أن الصيغة المقبولة في هذه الحالة والتي بسببها على ما نعتقد بني المأثور الشعبي حول وجود النفق هو : أن الضريح الأول الذي انشئ في باطن الأرض بعد الحدث ربما بزمن ليس ببعيد، كان ينحدر إليه بمدخل عمودي ضيق تدلنا عليه آثار الحفرة الكائنة وراء الجدار الجنوبي للضريح الحالي، وأن هذا المدخل كان يقود في حينه إلى مزار أو كنسية صغيرة قريبة من الضريح الأول وربما مكانها في قمة التل أو عند منحدره الشمالي. وعند انتفاء الحاجة لتلك الكنسية الصغيرة ومن ثم ازالتها وبعد تجديد الضريح بالهيئة التي نشاهده عليها اليوم بحيث تغير مدخله وأصبح الوصول إليه عن طريق الدهليزين بعد المرور بالغرفة المتقدمة للدرج، ظلت صورة المدخل العمودي الذي يقود للكنسية الصغيرة في الجوار عالقة بالأذهان حيث انتقلت بمرور السنين إلى المأثور الشعبي وأصبحت في ذهن البعض حقيقة لا يمكن التخلي عنها وامتزجت بكثير من الأقاصيص والحكايات الشعبية التي تحيط بالحدث الأصلي وظروفه. مما تقدم نجد بأن هناك من الأدلة الأثرية والأخرى التي تنتظر التنقيب كافية بمجموعها لإلقاء الضوء على أصالة الحدث وتاريخيته.مهما علق بهذا الحدث من أقاصيص وحكايات قد تبدو للبعض أنها على شيء من الخيال.
Comments powered by CComment