
بغداد: «الشرق الأوسط»
«التاريخ من باطن الأرض» هذا ما يقوله الدكتور بهنام ابو الصوف وهو لا يمزح في هذا القول، ولا يقوله بغرض الاثارة والتشويق، انما يعبر عن اختصاصه واهتمامه، فهو عالم آثار والآثار تاريخ، وهي موجودة في اعماق الارض. وللدكتور ابو الصوف مسيرة طويلة مع الآثار، فقد عمل منقبا ومؤلفا واداريا ومفتشا فيها بعد دراسة اكاديمية غنية، اذ التحق بقسم الآثار والحضارة في جامعة بغداد في عام تأسيسه 1951، وتخرج فيه بدرجة جيد جدا عام 1955، وعمل بعد ذلك في المسح الآثاري بحوض دوكان في محافظة السليمانية، واراضي مشروع المسيَّب الكبير في محافظة بابل، وبعد اكمال دراسته في جامعة كيمبريدج العريقة ببريطانيا خلال الستينات عمل منقبا في القصر الشمالي الغربي للملك آشور ناصر بال في موقع نمرود في نينوى، كما عمل في موقع تل الصوان قرب سامراء، وفي موقع قلعة اربيل، وتولى مهام ادارية وتفتيشية في مجال الآثار في العديد من المناطق العراقية، ودرس مادة الآثار في عدد من الجامعات العراقية والعربية والاجنبية.مع الدكتور بهنام ابو الصوف كان لـ «الشرق الأوسط» هذه الجولة الحوارية:
* هل ساهمت ابان عملك الطويل في كشف مواقع معينة؟
ـ نعم، لقد ادى عملي في تل الصوان في سامراء الى الكشف عن بقايا قرية من العصر الحجري الحديث، تعود الى مطلع الألف السادس قبل الميلاد، كما ادى عملي في موقع قاينج آغا قرب قلعة اربيل الى الكشف عن مستوطن واسع من عصر الوركاء، مع معبدين قائمين وسط حي سكني مقام على مسطبة من اللبن تشكل بدايات الزقورات (الابراج المدرجة) في وادي الرافدين.
* وماذا قدمت هذه المواقع؟
ـ انتم تعلمون ان التنقيب لا يجري للحصول على مادة تاريخية غير معروفة فقط او ادلة وبراهين جديدة عن مرحلة او مراحل من التاريخ القديم لأي بلدة. وفي اعمالي الميدانية، خاصة في تل الصوان وقاينج آغا في اربيل، اذ حصلنا في الموقع الاول على نتائج مذهلة وجديدة عن حلقات كانت مجهولة من مطلع الألف السادس قبل الميلاد في وسط العراق، وحصلنا في الموقع الثاني على اجوبة مهمة لكثير من المسائل المعمارية والفنية والاجتماعية عن مرحلة بدايات عصر الوركاء في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
* وأي المواقع الآثارية التي عملت فيها اقرب الى نفسك؟
ـ كل الاماكن التي عملت فيها احمل لها في قلبي ذكرىات جميلة وانطباعات رائعة، ابتداء من حوض سد دوكان في منطقة رانية بقراها الجميلة وناسها الطيبين البسطاء، ونهر الزاب الصغير الذي يشق طريقه في وسط ذلك السهل الفسيح الذي تحول الى بحيرة، حتى اراضي مشروع المسيَّب الكبير التي كانت مغطاة بكثبان الرمل المتحركة، والتي كنت التقي فيها بقطعان كثيرة من الغزلان كلما دخلت ربوعها.
ولدي ذكريات جميلة ايضا عن سنوات التنقيب في منطقة خرساباد، منطقة الآلهة الاشورية السبعة، وحوض سد حمرين التي انقذنا خمسين موقعا فيها قبل ان تغمرها مياه السد، كما انقذنا في حوض سد صدام في منطقة اسكي موصل مائة وخمسين موقعا اثريا.
وفي ذاكرتي موقع خاص للعمل في تل الصوان جنوب سامراء، حيث وفقت للكشف عن المكان الذي انتقلت منه معارف فلاحي شمال العراق الاوائل الى مواطن وسط وجنوب العراق، في مطلع الألف السادس قبل الميلاد. وكان لاكتشافاتي غير المسبوقة في هذا المكان صدى واسع في اوساط الآثار العربية والدولية، حيث اخذت مكانها في مختلف النشريات العالمية الآثارية، كما اخذتني لعدد من الجامعات في الكثير من انحاء العالم لالقاء المحاضرات عنها.
* أساتذة وعمال
* ومن هم اساتذتك في مجال الاثار؟
ـ اساتذتي يتوزعون الى قسمين، اولئك الذين درست الاثار على ايديهم، والذين عملت معهم في ميادين الاثار. القسم الاول يبرز فيه العالمان العراقيان الجليلان طه باقر وفؤاد سفر، اذ اخذت عنهما الشيء الكثير في علم الاثار والتنقيب عنها والكتابة عن مواضيعها والمعرفة في شؤون البحث الاثاري.. والقسم الثاني هم زملائي واخوتي من العمال الفنيين الميدانيين الذين تعلمت منهم الكثير من دقائق وجزئيات حرفة التنقيب عن الاثار، وكيفية التمييز بين طبقات الارض والتمييز بين الابنية والاسس والجدران والتعرف على الطابع المعماري لكل عصر. اذ ان هؤلاء العمال الذين سكنوا قرى منطقة الشرقاط العراقية، وقرى السديرات العليا والسفلى والذين ينتسبون الى عشيرة الجبور اتقنوا حرفة البحث عن الاثار لاحتكاكهم المباشر بالارض والتربة وانقاض المواقع الاثارية، كما تعلم اباؤهم واجدادهم من البعثات الاجنبية المنقبة عن الاثار الشيء الكثير.. وانا ادين لهم بما املك من خبرات في التنقيب الميداني، وهم كثيرون ويعتمد عليهم في هذا المجال.
* مراحل آثار
* ماذا عن المراحل التي مررت بها كعالم آثار، هل يمكن اطلاعنا عليها؟
ـ لقد مررت بثلاث مراحل، فالخمسينات والستينات كانتا بالنسبة لي مرحلة الدرس والتعليم والتدوين، ومرحلة السبعينات كرست للمسح الاثاري والاكتشافات والتوثيق والتأليف، ثم جاءت مرحلتا الثمانينات والتسعينات وهي مرحلة التنظير والتدريس والنضج الفعلي الاكاديمي والقدرة على تقديم المشورة والخبرة في ميدان الاثار.
* والتنقيبات الاثارية في العراق.. ما هي ابرز المراحل فيها؟
ـ طبعا مرحلة العشرينات. على الرغم من ان هذه المرحلة لم تتميز حقا بجهود عراقية، بل كانت تعتمد على البعثات الاجنبية، وذلك لأهمية الاكتشافات الاثارية الحاصلة فيها. اذ حصلت فيها مكتشفات المقبرة الملكية في اور والتعرف على اثار كيش والوركاء ولكش، كما تحقق فيها الكثير من منجزات التعرف على مكنونات الكتابة المسمارية ورموزها بشكل جعلها المرحلة التي وضعت فيها الاسس لعلم الاثار الحقيقي، ليس في العراق فقط وانما في عموم الشرق.
وتميزت مرحلة الاربعينات باكتشافات العالم العراقي الدكتور فؤاد سفر في مواقع حسونة واريدو، وهي تعد حدثا مهما وجديدا، اذ قدمت اضافات جديدة في التعرف على بدايات الاستيطان في جنوب العراق، وبدء نشوء القرى الزراعية الناضجة في الشمال والكشف عن الكثير من الاثار.
وقد عرف عقدا الستينات والسبعينات مكتشفات اثارية مهمة، اذ كانت مكتشفات تل الصوان اضافة بارزة في التعرف على جذور حضارات وادي الرافدين، وجاءت مكتشفات قبور الملكات الاشوريات في نمرود والثروة الكبيرة من المصاغات الذهبية التي كانت تزين اجسادهن، ذات اهمية كبيرة في التنقيب الاثاري في العراق.
* وكيف تنظر الى الجهود الاثارية العراقية بالمقارنة مع العربية والاجنبية؟
ـ في الواقع ان ما قدمه الاثاريون العراقيون متميز وكبير، وبعضه يوازي او يفوق في نتائجه على ما حققه نظيره العربي والاجنبي، لكن الذي يحصل ضعف معرفة الآخرين به، اذ ينقصه النشر العلمي الجيد والاعلام الاكاديمي والاثاري.
* أسماء بارزة
* وهل توجد اسماء عراقية بارزة في علم الآثار؟
ـ نعم توجد عدة اسماء، ومن ابرزها كما اسلفت، العالمان الكبيران المرحومان طه باقر وفؤاد سفر، اللذان يعدان من ابرز اثاريي المنطقة العربية في اواسط القرن العشرين، وهما من ابرز علماء العالم في هذا المجال. ويحق لعدد من تلامذة هذين العالمين الكبيرين من الجيل الثاني والثالث من الاثاريين او العلماء المسماريين من العراقيين ان يوصفوا بالجدارة العلمية والتميز، امثال الدكتور فاضل عبد الواحد استاذ السومريات في جامعة بغداد والدكتور عامر سليمان المختص في حقل السومريات في جامعة الموصل.
* هل يعني هذا وجود قاعدة اكاديمية عراقية جيدة في علم الآثار؟
ـ نعم نحن متميزون في الدراسات المسمارية وجامعتنا ذات قاعدة جيدة بسبب وجود اساتذة متميزين في هذا الحقل، لكننا في الدراسات الآثارية وطريقة تدريس الاثار تعوزنا التقنية ووسائل الايضاح، وذلك ما تحتاجه متاحفنا، كما يحتاجه الجانب العلمي الميداني الخاص بالتنقيب عن الآثار.
* وهل توجد مدرسة عراقية في مجال الآثار؟
ـ لا شك في ذلك، فالمدرسة العراقية في الاثار لم تعد جديدة وانما قطعت العديد من المراحل، اذ وضع اسسها العالمان المرحومان طه باقر وفؤاد سفر، كما كان للمرحوم الدكتور ناجي الاصيل فضل تأسيس قسم جامعي لدراسة علم الاثار في مطلع الخمسينات انطلاقا من الاثار العراقية وخصوصيتها، وما قدمت من مرتكزات ونتائج عملية. ومن خصائص المدرسة العراقية انها تعمل على اساس مفاهيم وطنية وقومية وتتعامل مع معطيات ونتائج التنقيبات بما يعزز علاقة الاثر بموقعه ويحافظ على الاثر نفسه وهذا التعامل يختلف عن التعامل الاجنبي مع الاثار الذي يؤدي الى نقلها الى خارج مواقعها مع تخريب هذه المواقع.
ولقد قامت المدرسة العراقية بتصحيح الكثير من المفاهيم المدسوسة والمنحرفة التي حاول بعض العاملين في الاثار والتاريخ من الغربيين، خاصة من المستشرقين، بثها عن اصالة الحضارة العربية بشكل عام والحضارة العراقية بشكل خاص، وكانت تهدف الى التشكيك بهذه الاصالة والتشكيك بما حققته من منجزات.
* كتب وتاريخ
* ولكن الاجانب كتبوا الكثير من المؤلفات الجيدة عن الاثار العراقية! ـ نعم بعضها جيد، لكن ترجمتها لم تكن جيدة في اغلبها، اذ تعوزها الدقة وضبط المصطلحات. وقد اوضحت في اكثر من مناسبة ان هذه المؤلفات مهمة وخطيرة وتخصصية ويجب ان تعرض على جهات ذات اختصاص. كذلك يجب ان تعرض على جهات اكاديمية لمراجعتها قبل نشرها، ولا بأس من تولي مترجمين محترفين نقلها الى العربية، لكن من المهم والضروي عرضها على اثاريين وعلماء مسماريات او مؤرخين قبل النشر، وهذا ما سيساعد على التنبيه الى السلبيات فيها، والرد على ما تتوفر عليه من مفاهيم مدسوسة ومنحرفة ويساعد على ضبط المفاهيم والمصطلحات العلمية فيها.
* ولكن هذه المؤلفات ما زالت معتمدة في دراسة الاثار العراقية فما هو رأيك بذلك؟
ـ هذا امر مرهون بالنشر وسرعة وصول المعلومات. فالمنقب الاجنبي، ومن ورائه الجامعات والمتاحف والمؤسسات يسعى الى سرعة نشر ما يحصل عليه من نتائج ومعلومات لتدخل في المؤلفات والموسوعات، لكننا نعاني التأخر في نشر نتائج تنقيباتنا، فهي لا تنشر بسرعة او بالاسلوب العلمي الامثل لتأخذ طريقها الى المراجع او تصبح مرجعا يحتذى به وينقل عنه.
ومع هذا فإن المراجع العراقية عن الاثار العراقية ليست قليلة، وهي معتمدة في دراسة هذه الاثار.
* وانت كيف جمعت بين التنقيب والتأليف في الاثار؟
ـ على الاثاري الجيد ان يكون كاتبا جيدا ليتمكن من استعادة الماضي واعادة كتابة التاريخ من مصدره الاكيد وهو الارض وما تنم من مخلفات الاجداد والماضي. وهناك مقولة شائعة في ميدان الدراسات الاثارية يجب ان لا تغيب عن البال، وبالاخص عن اذهان الاثاريين الشباب وهي «ان التنقيب تخريب»، اي ان فتح الموقع الاثاري واستخراج مكنوناته من بقايا معمارية او فنية او كتابية هو عملية ازالة تامة لهذا الموقع او محوه من الوجود اذا لم نتمكن من ان نوثق بالرسم والصورة والخارطة والملاحظة كل دقائق الموقع، بكل موجوداته وطبقاته وادلته واذا لم نستطع وصف وتحليل ودراسة هذه المظاهر والمعالم واستنباط ما يدل على المكان وسكانه وعملهم وفنونهم وعقيدتهم وعلاقاتهم وتقاليدهم.. الخ. نكون قد دمرنا اثرا ودليلا لحياة ماضية، لذا وجب ان يكون الاثاري الجيد كاتبا ومؤلفا ومؤرخا، ومن هذا المنطق تجدني منقبا ومؤلفا، اعمد الى نشر تنقيباتي في حينها وظروفها، وبهذا جمعت بين المنقب والمؤرخ والمؤلف في آن واحد، وصدرت لي الكثير من المؤلفات الخاصة بأعمالي في التنقيب ومنها «ديلمون الفردوس المفقود» و«ظلال الوادي العريق» و«العراق حدث الارض» و«الحضارة والانسان» و«التاريخ من باطن الارض».
Comments powered by CComment