
بقلم : بهنام ابو الصوف (1)
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وحين كان العراق يأمل أن يُعقد مؤتمر عدم الانحياز في بغداد، بدأت الدولة بأعمال عمرانية واسعة في العاصمة بغداد. من بينها الجسور والشوارع المعلقة والمتقاطعة. كما قامت بوضع خطط مدروسة من قبل أمهر المكاتب الهندسية في العالم لإقامة مبنى ضخم احتفالي لمكان اجتماعات روؤساء دول عدم الانحياز ووفود دولهم، أطلق عليه في حينه، وما زال، قصر أو مبنى عدم الانحياز كما بدأت بتنفيذ تشييد عدد من فنادق الدرجة الأولى الفخمة كالرشيد والشيراتون (عشتار) والمرديان (فلسطين) والسدير (نوفوتيل) قرب ساحة الأندلس كما اتخذت ما يلزم لإعادة تأهيل فندق الميليا (منصور) في كرادة مريم، كانت الشركة المنفذة لفندق المرديان (فلسطين) شركة يوغسلافية كما كان المهندس الاستشاري للمبنى فرنسياً. ولأجل تغطية جدار الممر الطويل المؤدي إلى قاعة الاحتفالات والاجتماعات الكبيرة، فقد جلب المهندس الاستشاري الفرنسي نسخاً جبسية ملونة من عدد من الجنود الأخمينين (الفرس) المدججين بالسلاح، من متحف اللوفر في باريس كانت هي وغيرها من زخارف ومنحوتات جدارية تزين بالأصل قصور عاصمة الاخمينين برسبوليس (أصطخر)، ومتأثرة أصلاً بفن النحت الآشوري، وعند مروري صباح كل يوم من ساحة الجندي المجهول (سابقاً)، وساحة الفردوس حالياً، قادماً من داري في حي المثنى (زيونه)، ومنتقلاً منها إلى الشارع الفرعي المار أمام مدخل فندق الميريديان الذي كان في أواخر مراحل الإنشاء إلى شارع أبي نؤاس ومنه إلى الباب الشرقي وجسر الجمهورية في طريقي إلى دائرة الآثار في مباني المتحف العراقي في جانب الكرخ. كنت في بعض الأحيان أتوقف أمام مبنى الميريديان للاطلاع على سير العمل فيه، وفي أحد توقفاتي الصباحية ودخولي صالة الفندق الأمامية، وجدت عدداً من النسخ الجبسية الملونة للجنود الفرس (من العصر الأخميني) ملقاة على أرض الصالة .
نموذج لأفريز الجنود من قصر الملك الاخميني في بيرسيبولس ( أصطخر )
وعندها سألت عن المهندس العراقي المقيم لدى الشركة اليوغسلافية المنفذة لمبنى الفندق، وكان شاباً بمقتبل العمر على ما أذكر، وسألته عن هذا النسخ الجبسية وما معنى وجودها في هذا المكان؟ أجاب المهندس العراقي المقيم: إنها نسخ جبسية لجنود آشوريين أتى بها المهندس الاستشاري الفرنسي من باريس، لتقام كزينة في جدار الممر المؤدي إلى قاعة الاحتفالات في مبنى الفندق. عندها قلتُ للمهندس الشاب العراقي: ابني هذه ليست لجنود آشوريين، بل هي نسخ لجنود أخمينين فرس، لا يجب أن توجد أصلاً في أي مبنى عراقي، ولا كان أصلاً أن يؤتى بها إلى هنا، أنصحك أن تخبر الاستشاري بذلك، والأفضل أن تنقل كلامي هذا إلى الجهة المسؤولة عن إقامة الفندق وقبل فوات الأوان، ثم تركته وتركت صالة الفندق واستأنفت طريقي إلى دائرتي في المتحف العراقي. مرت سنوات، وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، دخلت الميريديان (فلسطين) وبطريقي إلى قاعة الاحتفالات، رفعت نظري وأنا أسير في الممر نحو أعلى الجدار الذي على يساري، فإذا بالجنود الأخمينين بملابسهم الزاهية وأسلحتهم يحدقون بي من علٍ. عجبت من الأمر وعدت أدراجي إلى منصة استعلامات الفندق وسألت عن مديره المسؤول، فجاءني الرجل على عجل، قلت له: أخي كيف سمحتم بوضع هؤلاء الجنود الأخمينين على جدار في فندق الدولة هذا، أجابني الرجل: أستاذ هؤلاء نسخ جبسية لجنود آشوريين!
تركته من دون أن أعلق بكلمة على جوابه وذهبت بطريقي إلى داخل قاعة الاحتفالات صامتاً. في صباح اليوم التالي ومع بداية الدوام الرسمي ذهبت لمقابلة وزير الثقافة والإعلام والزميل القديم أيام كلية الآداب حامد يوسف حمادي، في مكتبه في مبنى الوزارة في كرادة مريم، وكان حين يُخبر بوجودي في مكتبه يطلب أن أدخل فوراً. وفي مكتبه نهض لاستقبالي وعلى وجهه علامات الدهشة من هذه الزيارة المبكرة مع بداية الدوام، وسألني: ماذا هناك يا بهنام (الكلفة بيننا مرفوعة كزملاء وأصحاب قدامى)، وماذا وراء هذه الزيارة المبكرة . قلت: أخي حامد ما أتى بيَّ باكراً كهذا حتى قبل أن تنظر في جرائد اليوم التي أراها ما زالت مطوية على مكتبك هو الجنود الفرس الأخمينين الذين يزينون جدران أحد ممرات فندق الميريديان (فلسطين). ورويت للوزير قصة هؤلاء الجنود من أولها وحتى مساء أمس لما رأيتهم على جدار ذلك الممر في الفندق. في صباح اليوم التالي وجدت، وعلى صدر الصفحة الأولى من جريدة الثورة خبراً ومعه صورتي بالبنط العريض يُقرأ كالآتي:
(الدكتور أبو الصوف ينتصر على الفرس الأخمينين) وتحته الحكاية بكاملها. علمت أن الوزير حامد يوسف حمادي قد تحرك وبسرعة لمعالجة الأمر وإنهاء الفضيحة. وفي ذلك المساء مررت بالفندق ودخلت الممر فوجدت جداره الشمالي عارياً وقد اختفت النسخ الجبسية الملونة للجنود الفرس الأخمينين، وقد أخبرني الأخ الصحفي الفلسطيني كاتب مقال الثورة أنهم يتهيأون ليضعوا مكانها، وبموافقة الجهات المعنية في الدولة، مشهداً من بطولات الشعب الفلسطيني وما أكثرها).
_________________________________________________________________________________________________
[1] مستلة من الكتاب الموسوم : رحلتي مع آثار العراق ، مذكرات الاثاري العراقي د. بهنام ابو الصوف - ( ص 85 -87 ) - منشورات دار المدى - 2014
Comments powered by CComment