عن الأساطير المؤسسة للعقل الثقافي العراقي
عبد الأمير الحمداني
عن دار تمّوز للطباعة والنشر في دمشق 2012، صدر للباحث والأكاديمي د. ناجي عباس الرّكابي كتابا بعنوان (الأساطير المؤسسة للعقل الثقافي العراقي: دراسة في جينالوجيا الثقافة العراقية). يقع الكتاب في ٤٠٠ صفحة من القطع المتوسّط ويتألف من مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول.
يعتبر الكتاب، بحق، أكثر المحاولات رسوخاً وأعمقها بحثاً في مجال الأثنوغرافيا، اذ يجتهد الكتاب في إيجاد تفسيرات لظواهر إجتماعية وثقافية معاصرة تشكّل أساساً في بناء الأنساق المعرفية والفكرية في العقل العراقي، الجنوبي منه على وجه الخصوص.
إن ما وصلنا من أساطير وملاحم رافدينية كانت بحق معتقدات دينية متّبعة ومرتكزات وبُنىً ثقافية ومعرفيّة تحظى بالقُدسية لكننا، اليوم، ننظر اليها على أنها محض أساطير.
أجرى الباحث حفريات مُعمَّقة للبحث عن الجذور والحواضن المبكّرة للثقافة العراقية اليوم. حيث يتحدث في مقدمة الكتاب عن مفهوم الأسطورة ونظريات نشوئها وعن الإسطورة الرافدينية بوصفها احدى أهم وأقدم المراجع والمصادر التي استقت واستعارت منها الحضارات والثقافات اللاحقة، أفكاراً وآداباً ومعتقدات. يعتبر الباحث أن تشكّل ثقافة ثرّة لايمكن أن يحدث من دون الإعتماد والإرتكاز، غالباً، على أرضيّة إسطوريّة. فهو يؤكد على أن " الثقافة تتأسس حين ترتكزعلى جذر أسطوري يوفّر لها هامشاً مُهاباً ومجالاً حيوياً للمعرفة ".
في الفصل الأول، يتم إستعراض علاقات الإسطورة بالطقوس والثقافة والتأريخ والآداب. أمّا في الفصل الثاني فيركّز الباحث جهده في البحث عن خصوصية المكان في الإسطورة العراقية، عاداً المكان العراقي بتنوعه الجغرافي والبيئي مكانا متخيلاً ذا صلة وثيقة بنشأة وتطوّر الأساطير والملاحم. ويفرّق الباحث،على سبيل المثال، بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر والحقل. حتى في داخل المنظومة الثقافية الواحدة، الزراعية مثلا، يجد الباحث فارقاً في آليات التفكير بين السكان في بيئة الفرات وأولئك الذين يسكنون على ضفَّتيّ دجلة، رغم أن الرافدانيين قد إلتفتوا إلى هذا الأمر منذ عصورٍ مبكّرة.
يمكن القول ان الباحث وُفقَ في توظيف أثرْ الإختلاف البيئي على تباين أنماط الثقافة وآليات التفكير بين بيئتي دجلة والفرات. وقد إهتدى الرافدانيون إلى أن وادي نهر دجلة أخفض من ضفافه مما يصعب السقي منه والتحكم بمياهه التي تجري بسرعة وأن الطمى الذي يحمله أقلُّ خصوبةً من طمى الفرات. لذلك، فإن الشخصية الفراتية أكثر أستقرراً وإستيطاناً من قرينتها في دجلة، وأن التحضّر والعمران قد حصل في وادي الفرات أولاً قبل أن يصل الى دجلة. يقال في جنوبي العراق، للنخلة غير المثمرة أو التي تطرح ثمراً سيئاً، يقال لنخلة كهذه " دگلة/ دقلة ، وهي كلمة عراقية- آرامية ذات أصل رافداني قديم"، في إشارة إلى أنها من نخيل دجلة الذي يقّل جودةً عن نخيل الفرات، مضرب الأمثال، إذ يقول السومري للمرأة الخصبة الجميلة " أنت نخلةٌ من جو- إدينّا"، وجو- إدينّا سهلٌ ممرعٌ خصيب يقع بين أوروك وأريدو ومعنى إسمه "فم السهل/الجنّة، أيدن ربما أصل كلمة عدن".
وفي خصوصية المكان العراقي بوصفه جاذباً للشعوب الاخرى، يَري المؤلِّف أن جيمع من وَفَدَ الى بلاد الرافدين بدءً من الجوتيّين في منتصف القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد إلى المغول في القرن الثالث عشر الميلادي وما بعده، وهم في الغالب غير متحضّرين، قد تحوّلوا من حياة الهمجية والبداوة والترحال الى حياة الإستقرار والتمدّن والتحضّر بمجرد ان وطأت أقدامهم أرض الرافدين. وفي الإتجاه عينه، يؤكد المؤلف على حقيقة أن العراقيين قد أوجدوا نسخاً مكيّفة ومعدّلة من الثقافات والأديان التي وفدت الى العراق بعد أن خبى بريق حضاراته. حتى أنهم قاموا بـ" تعريق" الإسلام والمسيحية واليهودية والزرادشتية، بمعنى أنهم صنعوا إسلاماً عراقياً معدلاً عن الأصل البدوي،كما ابتكروا نسخة مسيحية عراقية نسطورية تختلف عن النسخ الرومانية واليونانية، وساهموا في صياغة الأسفار الخمسة الأولى المؤسسة للتوراة اليهودية.
وللزمان خصوصيته وتاثيره في تشكّل العقل العراقي وفي مقدرته على إنتاج وتجذير الفكر والمعتقد بوصفهما بواعث ومحفزّات نشوء وتطوّر الحضارة. وهذا ما يؤكدّه المؤلِّف في الفصل الثالث المعنون "خصوصية الزمن في الإسطورة العراقية". فالزمن عند المؤلف يتضمّن عناوين فرعيّة منها: الزمن الواقعي، المتخيّل، الموضوعي، النفسي، الثقافي، الإسطوري والمقدّس.
في حفرياته اللغوية ،كما حفرياته في الموروث، إستطاع الباحث من تفكيك المفردات والمقولات والظواهر والممارسات الإجتماعية في محاولة للوصول إلى الجذورالأصيلة المؤسسة للعقل الثقافي العراقي، تلك الجذور الممتدّة من عصر الأساطير الرافدنية بشقيها: السومري والبابلي مروراً بالعتبة الآرامية بفرعها الجنوبي المندائي وصولاٌ إلى الوقت الراهن. كما أنه إستطاع من متابعة إنتقال المفردات الرافدينة بين الأجيال المتعاقبة التي سكنت السهل الرسوبي الرافديني، بل ملاحظة إنتشار المفردات اللغوية الرافدينة وحركتها لتشكّل ركائزً مهمةً في لغات وآداب وحتى أديان الشرق الأدنى.
يبدو ان البيئة الزراعية- النهرية التي عاش فيها الباحث، بنتاجها الثقافي الزاخر، قد وفرت فرصةً حيويةً له في ملاحظة ومتابعة تفاصيل الحياة اليومية للناس، عاداتهم، تقاليدهم، حكاياتهم المروية، وكذا تعاملهم مع بيئتهم المحيطة، خصوصاً وأنها تقع في وسط سهل الغرّاف الرسوبي الخصيب بين مملكتي أومـّا ولجش السومريتين. كل هذه الحيثيات وغيرها مكّنته ليس فقط من رصد الظواهرالإجتماعية، والثقافية واللغوية، بل محاولة ربطها بجذرها الرافيني القديم موظفاً القياس العلائقي (Relational Analogy) في إستنتاجاته وأستدلالاته.
المصدر : هنا
Comments powered by CComment