د. زهير صاحب

نمرود عاصمتنا الجميلة: التي غادرتنا من زمن قريب

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

يتزامن هذا المقال مع الكارثة التي حلت بارض الحضارات اثر جرف البلدوزرات لشواهد المدينة الملكية النمرود قرة عين أشور والعراق القديم.

بغداد, اذار 2015


استعمل الملك (آشور-ناصر-بال) الثّاني (883-859 ق.م) في أوائل حكمه، مدينتي أربيل ونينوى قواعد تعبويه لعملياته الحربية، وبسبب بعد العاصمة آشور عن أماكن العمليات العسكرية التي تركزت في الجهات الشّمالية والشّمالية الغربية، قام بإعادة بناء المدينة الآشورية (كالح) التي تعرف بقاياها باسم (النّمرود) وتقع على بعد (22) ميلاً جنوب الموصل، والتي أسسها من قَبلهِ الملك (شيلمنصر) الأول (1274-1245 ق.م)، لكنها أهملت من بعده وحلَّ فيها الخراب. فعزم (آشور-ناصر-بال) على تجديدها وإعادة بنائها واتخذها عاصمة عسكرية، لتكون فيها ثكنات الجند والمعدات الحربية، ومنها كانت تُسيّر الحملات الحربية وتُدار العمليات العسكرية.
تميزت العاصمة الجديدة بموقع استراتيجي مهم جداً، شأنها في ذلك شأن العاصمة القديمة آشور، كونها تقع في الزّاوية التي يلتقي عندها نهر الزّاب الأعلى بنهر دجلة، لذلك فهي محمية بمثل تلك العوارض المائية المنيعة من جهتيها الغربية والجنوبية. وبفعل هذه الغواية الاستراتيجية، بذل الملك الذي يُعد مؤسس الفكرة الأسطورية للملكية الآشورية، جهوداً كبيرة في بنائها، إذ سَوّى أنقاضها بالأرض، ووسع من مساحة أبنيتها، وشيد حولها سوراً ضخماً مدعّما بالحصون والأبراج الدّفاعية، بلغ محيطه ثمانية كيلومترات، والمدينة مستطيلة الشّكل تقريباً مساحتها ثلاثة كيلو مترات مربعة ونصف الكيلومتر، وأختار مؤسسها أحد المرتفعات الطّبيعية في إحدى زوايا المدينة، بنى عليه (زقورتها) ومعابدها وقصره الملكي.

 




 

زوّدَ الملك عاصمته الجديدة بالمياه، عن طريق قناة مُدّت من الزّاب الأعلى، وزرع فيها الحدائق الجميلة التي ضمّت أنواعاً متنوعة من النّباتات التي جلبها الملك من أماكن شتى في حملاته الحربية المتعددة. وحفر فيها العديد من الآبار التي وصل عمقها إلى ثلاثين متراً، بغية الحصول على الماء العذب للشرب
والإرواء ولا سيما في فصل الصّيف الذي ينخفض فيه مستوى النّهر إلى مستويات شحيحة. وبفعل شخصية الملك متنوعة الهوايات، فقد أقام في مدينتهِ حديقة كبيرة للحيوانات، كانت مدار اهتمام الملوك ممن اعقبوه حتى شملت أنواعاً متعددة من الحيوانات التي جُلبت كغنائم حربية أو قُدمت كجزية من الشّعوب المغلوبة ومنها: الدّببة والضّباع والأسود والنّمور والفهود والغزلان والماعز البري والجاموس والأغنام البرية والوشق والفهد والحمر الوحشية (الأخدر) والجمل ذو السّنامين وغيرها، وقد كانت أماكن التّرفيه تلك مخصصة للعائلة
المالكة والطّبقة الأرستقراطية فحسب، للأسف الشّديد.

اعتمد (آشور-ناصر-بال) في بناء عاصمتهِ على المهندسين والعمال الآشوريين،






وأمثالهم من الشّعوب التّابعة لسيطرة الأمبراطورية، الذين أسكنهم في مدينتهِ بعد إنجازها، فكانت حاضرة عالمية حقاً، تعددت بها الشّعوب واللغات والجنسيات. ودشنها بإقامة وليمة كبيرة ربما تُعد أكبر وليمة في التّاريخ، "إذ بلغ عدد المدعوين فيها سبعين ألفاً ودامت لمدة عشرة أيام" (ساكز، 1979، ص 113).
يُعدّ القصر الشّمالي الغربي، من أهم الوحدات المعمارية في المدينة، الذي اكتسب تسميته من موقعه الجغرافي في خارطة مدينة نمرود، الذي اكتُشف جزء منه في اكتشافات البعثة البريطانية برئاسة (ليارد)، واستكملت هيئته المعمارية على يد (ملوان) بعد ذلك بزمن طويل. ويُظهر المخطط المعماري للقصر، أن الطّبيعة لم تعامل مركز إدارة الأمبراطورية الآشورية بنحو شفاف، إذ جَرفت سيول الأمطار عبرَ الزّمن أجزاءً كبيرة منه وبلا سيما مجموعة السّاحات والقاعات والغرف في الجهة الشّمالية منهُ. ومع ذلك فإن أجزاءه المتبقية تعلن على أنه يمثل النّظام المعماري الأنموذجي للقصر الآشوري في تاريخه الحديث، بوصفه رمزاً للمفهوم الآشوري للملكية.
بنى الملك (آشور-ناصر-بال) الثّاني قصره المشهور في السّنة السّادسة من حكمه، بمساعدة الآراميين الذين جَنّدهم لذلك الغرض، ثم انضم إليهم في حفل ديني احتفاءً بإكماله، قبل أن يعيدهم إلى بلادهم. ويظهر المخطط الهندسي للقصر ذو (البنية) الحجرية، إلى أنه يُعد الصّورة النّاضجة لنظام القصر الآشوري، الذي ظهرت بوادره في العصر الآشوري الوسيط. فهو منظم بنحوٍ دقيق ويتميز بالتّناسق والتّناسب في فضاءاته المعمارية برغم ضخامته المفرطة، وتحصيناته الحربية المعقدة، ويتألف بنحوٍ عام من قطاعين معماريين رئيسين هما: مجموعة المباني التي تؤلف قطاع (البابانو)، ومنظومة الوحدات المعمارية التي تشكل مجموعة (البيتانو)، التي رمز اليها بالحرف like emoticon في خارطة الاكتشافات البريطانية، تفصل بينهما قاعة العرش التي تتألف من غرفتين كبيرتين تقعان في مركز القصر، إذ بلغت قياسات القاعة (B) 10م × 5م .
اختصت مجموعة ساحات وغرف (البابانو) بخزن المُؤن والعدد الحربية والغنائم، وإيواء أعدادٍ كبيرة من الطّباخين والخبازين وصانعي البيرة، وكبار موظفي الدّولة من الإداريين المدنيين وضباط الجيش، فضلاً عن السّفراء الأجانب، وأمراء الدّول الموالية، والكَتَبة الذين يتقنون كتابة عدة لغات، وموظفي جمع الضّرائب، والمترجمين، والأطباء، والموسيقيين، ورجال الدّين والسّحرة، وموظفي الخزينة الملكية.
في حين احتضنت قاعات العرش وغرفها المؤثثة بالفراش الوثير، والأثاث الأنيق، ومجموعة الحمامات المُريحة، شخصية الملك الذي حرصَ على تزيين غرفهِ بالرّسوم والمنحوتات الجدارية، التي توثق أو لنقل تحكي مآثره الدّنيوية وأهمها الحربية وحملات الصّيد، وكذلك مشاهد تعبده الدّينية وكأنها أحد متاحف العصور الوسطى المزدحمة بأجناس الفن، ففي مثل هذا المكان الخطير في الفكر الكلاسيكي الآشوري، كانت تُتخذ قرارات إدارة الأمبراطورية الآشورية المهمة، متداخلة مع عِبق رائحة البخور التي تملأ المكان ليل نهار، والانارة الزّيتية المشتعلة طوال ليالي العاهل الآشوري الوردية.
أما منظومة غرف (البيتانو) فقد عُنيت بإقامة ولي العهد، قبل تركه القصر الملكي إلى قصر ولاية العهد، وبلاط والدة الملكة، مع ما يتبعهما من خدم وحشم. فضلاً عن حشد من الفتيات الجميلات اللاتي يمثلن جواري الملك، ممن وصلن إلى هذا المقام كهدايا من ملوك الدّول والأقوام المغلوبة وأمرائها، فكل جمهرة النّسوة كنَّ يتنافسن بزحام شديد على نيل رضى سيدهن الملك.
تشكل الحصون الحربية مَعلماً معمارياً مميزاً في البنى المعمارية للعواصم الآشورية، ويُعد مبنى (الإيكَال مشرتي) أي مكان تجمع القطعات العسكرية وتدريباتها، الذي يقع ملاصقاً للسور الخارجي في الزّاوية الجنوبية الشّرقية لمدينة نمرود، الوحدة المعمارية الأكثر أهمية من النّاحية السّياسية والعسكرية في عهد الملك (شيلمنصر) الثّالث (858 - 824 ق.م). إذ كتب الملك في حولياتهِ: "بأن القلعة العسكرية في مدينتهِ، التي أقامها الملوك الذين سبقوه، لم تعد تفي إجراء التّمارين التّعبوية العسكرية، لذلك عمل على توسيعها وتجديدها". فأصبحت بمثابة ترسانة عسكرية لخزن المعدات الحربية والغنائم، وفضاءً معمارياً واسعاً لإقامة الجند واجراء تدريباتهم المتنوعة التي شملت تدريب الخيول وتمارين قيادة العربات الحربية.
لعب حصن (إيكَال مشرتي) في مدينة نمرود، بوصفه القلعة العسكرية المنيعة التي تضم في فضاءاتها الدّاخلية، العديد من القوات الآشورية الضّاربة، دوراً مهماً في الحفاظ على عرش الملك (شيلمنصر) الثّالث، حين أعلنت المدن والأقاليم التّابعة للأمبراطورية الآشورية، العصيان والتّمرد على سلطتهِ، إلا أن ذلك لم يجدِ نفعاً، بسبب ولاء القطعات الملكية لسيدها الملك، مما ساعدها على إجهاض الثّورة وإعادة النّظام لهيكل الدّولة الآشورية.
وبرغم اختلاف وظيفة حصن الملك (شيلمنصر) الثّالث، عن قصر أبيه (آشور-ناصر-بال) الثّاني المعروف بالقصر الشّمالي الغربي، فقد تماثلا في جوهر المخطط المعماري، فكلاهما يضم مجموعة من السّاحات والغرف تمثل مجموعتي (البابانو) و(البيتانو)، تفصل بينهما قاعة عرش الملك الفارهة. إلا أن هيمنة أعداد السّاحات الواسعة المكشوفة على المخطط المعماري لحصن (إيكَال–مشرتي) التي كُرّست للتدريبات والاحتفالات العسكرية، قد أوجد بنية اختلاف بين المعلمين المعماريين، فقصر الأب كان مكاناً لإقامة الأمبراطور الكبير، ومركزاً لإدارة أمبراطوريتهِ، في حين كانت للحصن وظيفة أخرى، وذلك هو سر نجاح المعماريين الآشوريين، الذين أدركوا سر بنية العلاقة، بين الوظيفة والشّكل المعماري بنحوٍ مُصيب.

Comments powered by CComment

Lock full review www.8betting.co.uk 888 Bookmaker