مسلة الامير السومري جودة - 2200 ق.م
كشفت التنقيبات الفرنسية التي قادها الأستاذ (كروس Cros) في مدينة لكش بالقرب من الناصرية خلال السنوات 1910 ــ 1914، روائع هامة من نماذج النحت البارز، واشهرها مسلة الامير (جوده) الذي افتخر في احد (نصوصه) المدونة، بانه أقام سبع مسلات في معبد واحد
دَّم عصر الأمير (جوده) حاكم مدينة لكش ثماره، في جنس أخر من أجناس النحت، هو النحت البارز. فلقد كشفت التنقيبات الفرنسية التي قادها الأستاذ (كروس Cros) في مدينة لكش بالقرب من الناصرية خلال السنوات 1910 ــ 1914، روائع هامة من نماذج النحت البارز، واشهرها مسلة الامير (جوده) الذي افتخر في احد (نصوصه) المدونة، بانه أقام سبع مسلات في معبد واحد، لم يكشف النقاب سوى عن واحدة منها حتى الآن. التي ظهرت للآسف الشديد في حالة سيئة من الحفظ، إذ استحالت الى مجموعة من الكسر الحجرية، التي فقد معظمها لسبب من الأسباب نجهل طبيعته في الوقت الحاضر. ورغم الجهود العلمية الدؤوبة، التي بذلها العلماء الفرنسيون والالمان في مشروع اعادة (تكوين) المسلة الى وضعه الاصلي من القطع المتوفرة لديهم، إلا ان ذلك المشروع، بقي مثار نقاش وخلاف بين المختصين حتى الوقت الحاضر.
نحتت مسلة الأمير (جوده) من حجر الكلس، وربما كان ارتفاعها يصل الى ثلاثة امتار في حالتها السليمة، ومعظم اجزائها محفوظة حالياً في متحف الدولة ببرلين. فقد كانت المسلة بالنسبة لامير مدينة (لكش)، تمتلك اهمية (التمثال)، في الأبلاغ عن بنية معتقداتهِ. إذ تمكن بواسطتها بوصفها أداة (باثة) للخطاب الفكري، ان يمثل على سطحها البصري، بحرية تصويرية كاملة، سرداً كاملاً، لنشاطاته وطقوسه الدينية، وجهوده المخلصة في البناء والاعمار، لأحلال الخير والرخاء في مدينتهِ السعيدة (لكش)، وتقديمها للآلهة في معابدها. فالمسلة بالنسبة لهذا الامير الورع، كالتمثال: فاذا كانت خطابات تماثيله الفكرية، بوصفها (رسائل) موجهة للآلهة تتركز في التأكيد على حالات العبادة.. فان خطابات مسلاتهِ دون ادنى شك، كانت عرضاً مصوراً للطقوس المقدمة للآلهة.
إن دراسة تحليلية لمنظومة العلاقات (الموضوعية والمادية والشكلية)، التي إنتظمت بشكل نسق جمالي في (بنية) اكبر القطع المتبقية من مسلة الامير (جوده)، التي يبلغ ارتفاعها 70سم، تَرى: ان عملية فهم وتفسير هذه الرائعة التشكيلية، تُعدّ عقيمة، دون الألمام بالمحرك الفكري المهيمن، الذي حقق فعل إنجازها، وتلك آلية في التحليل، ترجّح تفعيل خطاب (المرجع) في بنية المسلة، بوصفها إفرازاً من افرازات البنية الثقافية لعصر الأمير (جوده). فهذه البنية المنغلقة على ذاتها، كيّفت منظومة من الضغوط الفكرية، مغنطت (موضوع) المسلة بروحية اسطورية، فقبلتها الذات (الجمعية)... دون قهر، بوصفها خاصية (إعلائية) للموضوع في مثاليتهِ الموقّرة.
تمظهر الأمير (جوده) في السرد الأخباري لموضوع المسلة، كعادتهِ بزي الرهبان البسيط، والمؤلف من شال داخلي، تغطيه عباءة (بِشِتْ) لها حاشية ضيقة، حاملاً بيده اليمنى (سعفة) نخيل، وهو حليق الرأس، وقد عرَّف نفسه بانه: الأمير (جوده) حاكم مدينة لكش، كما يُشير النص المسماري السومري الذي سُطرّ بكل أناقةِ على اسفل ردائهِ. ويظهر وهو مُذعن لحركة إلههِ الشخصي (ننكزيدا) المعرّف بزوج من شكلي (التنين) اللذان ينبعثان من كتفيهِ بوضع متقابل، وهو يضغط على يده اليسرى بقوة، ويسحبهُ متقدماً الى الأمام رافعاً يده اليسرى بالتحية والتضرع، الى (إله) من مرتبة أعلى يقف أمامه، والذي ظهر مسترخياً، إذ (أراحَ) ذراعيهِ المتشابكتين على شكل (عصا) ذات استقامة منتظمة. أما الإله الرئيسي الذي يتقدم نحوه الموكب، فقد فُقدِ شكله للاسف الشديد، إلا إن بامكاننا تشخيصه بأنه الإله (إنكي)، بدلالة موجة المياه المتبقية، التي تتدفق عادة من كتفيه.
إن وظيفة (النص ــ المسلة) هنا.. هي (الابلاغ) عن تفاصيل نوع من الطقوس الدينية، أزاء مشكلة هامة، كان امير مدينة لكش تواقاً لأيجاد حل لها. فقد شغل بال السومريين في عصر نهضتهم الجديدة، ضرورة الأذعان الى الآلهة الذين يتصرفون كشفعاء او وسطاء أزاء الآلهة الكبيرة الشأن، فمثل هذه التراتبية التي تعرضها المسلة بداً من المتعبد الى إلههِ الشخصي، ومن ثم الى إله مدينتهِ، وبعدها الى احد الآلهة الكبرى. تؤكد ان ليس باستطاعة أحد حتى لو كان بمثل مركز الأمير (جوده)، ان يظفر بأصغاء من لدن الآلهة الرئيسية، ما لم يكن مصحوباً بمثل هذا الموكب الخاص من اعداد الآلهة. فالبنية الظاهرية للسطح البصري قد (دمجت) دائرة البشري بدائرة (الألهي).. لتبّث البنية العميقة للنص شفرتها، بأن يلبي (الماورائي) إحتياجات الحضور البشري. وذلك مجرد (وهم) احاله الفنان بجهده التخيلي الأبداعي، من فكرتهِ المجردة، الى تمظهراتهِ المرئية، التي تؤدي فيها الشخصيات ادواراً (كونية)، إنها بمثابة (اشكال رمزية) مثقلة باشكالات فكرية، كونها جزءً فاعلاً في الفعاليات والشعائر الطقوسية الناشطة في مستوى الوعي الاجتماعي.
يمكن فك (الشفرة) التي يبثها النص، بوصفه رسالة للأنسانية: من خلال واحدة من العلامات المهيمنة في بنيتهِ، ألا وهي شكل سعفة النخيل التي أمسك بها الامير (جوده) (شكل20). وهي علامة (إصطلاحية) بوصفها (دال) تؤكد مدلول الخصب في بنية المفاهيم المتحركة في الفكر الاجتماعي الرافديني. وذلك بمثابة (تعبير) الى ان الفكر الرافديني في عصر الامير (جوده)، قد صنف الظواهر، وأدرك ما بينها من علاقات، جاعلاً لكل قوة في الوجود (رمزاً) فغادرت الاشياء مسمياتها، متحولة الى مفاهيم بمثل هذه المغامرة الذكية، فدخول (السعفة) نسق الفن، قد حوَّل دلالتها بنوع من التأويل الفكري، لتتعدى (السببية) الرابطة بين المرموز بهِ والمرموز إليهِ، وبما جعلها (مشفّرة) عن دلالات جديدة، ترتبط بالرخاء الذي أحلّه السيد (جوده) في مدينتهِ، وفي ملمح آخر بالتطلع الى (سعادة) إضافية، ستأتي بها (الآلهة).. عقب إنتهاء تمسرحات الطقس الديني.
حوَّل الأمير (جوده) اهتمامه الى خامة الحجر الكلسي، عوضاً عن حجر الديورايت، لعدم استطاعتهِ الحصول على كتلة ضخمة تتجاوز الثلاثة امتار في الأرتفاع من هذه الخامة لنحت المسلة. فقدّمت (طراوة) هذه الخامة الجديدة تسهيلات هامة، في الخاصية التقنية لأظهار شخوص المشهد. فقد تم (تفريغ) الأرضية الى عمق كبير، مما جعل أشكال شخصيات المشهد الدرامي، تتحرك وكأنها أمام (ستارة) مسرح، فهي كثيرة البروز عن أرضيتها، وتتميز بالتجسيد والوضوح، مع ميل النحات الى (تدوير) بعض المناطق من التكوين التي ترتبط بالتشفير عن دلالة المشهد الفكرية. الأمر الذي حقق تقارباً مع خاصية الأظهار التقنية في المنحوتات البارزة الآشورية.
يتمايز نسق الأشكال على سطح المسلة بنوع من التقابلات الشكلية، ما بين ارتفاع كتل الاشكال، وانخفاض ارضياتها. وخشونة هذه الكتل، أزاء نعومة ارضية المشهد. وظلام اخاديد خطوط الأشكال، أزاء سطوع الانارة على اجزائه البارزة. وذلك فعّل الخاصية التعبيرية الجمالية لنسق الأشكال التي شُكّلت في حجومها، على وفق تراتبية خاصة، تفوقت اشكال الآلهة بها على حجم (الأمير)، فمثل هذه التقابلات في الحجوم، شُكّلت على وفق اهميتها في خزين الفنان الذهني، الذي يقضي بتفوق شكل (الماورائي) على حجم الشكل البشري.
فكان على (الفكر) في حينهِ، ان يُحلل ويركب نظم العلاقات في بنية التشكيل، لابداع صورة (الأله)، أي ان خاصية الرؤية في منظومة الأشكال، كانت تقوم على التأويل والكشف، تأويل نوع من (الصورة)، تُحضِر (الماورائي) من تخفيه، أو لنقل: إحالة اللامرئي الى مرئي. فكان (الحل) انتقاء الجسم البشري، كقالب لتمثيل (الماورائي)، الذي تمايز عن البشري بعدد من العلامات الملحقة او المضافة الى الاشكال، كالتاج المقّرن: الذي شُكّل بآليات اظهار تقنية جميلة، عُقدت بموجبها اربعة ازواج من القرون، وركبتّ الى بعضها، بتراتبية حجمية إيقاعية جميلة، بدءً من دائرتها العريضة التي تحصر الرأس، وحتى نهايتها المغلقة بقرن معقوف في القمة. وكذلك اشكال (اللحى) الطويلة، التي مُثلت في خاصية الاستيعاب البصري، بمسقط نظر أمامي، شأنها في ذلك شأن أشكال التيجان المقرنة، بوصفها تُشكل العلامات المهيمنة في نسق الاشكال، التي يتمايز بها (الماورائي) عن الحضور البشري.
ويمتد مثل هذا التمايز في (نظام) الاشكال، ليشمل أنظمة الأزياء، فملابس (الرهبان) البسيطة التي تمظهر بها الأمير(جوده)، يقابلها نوع من الأزياء الارستقراطية التي تمظهرت بها اشكال (الآلهة)، والتي شُكلّت من شال طويل يتألف من عدد من (الطبقات) الافقية المتساوية في المساحات، والمزينة بعدد من الخطوط العمودية المتموجة، الأمر الذي اكسب الاشكال فعلاً جمالياً متحركاً، بحركة حلزونية مستمرة بنبض خاص، من الاسفل الى الاعلى او العكس، فالسمة الجمالية لمثل هذه الاشكال الرمزية: تكمن في وجود (توافق) بين التعبير الدلالي من جهة، ونمط التمثيل من جهة اخرى، إذ لا يكون (القصد) ان تُعلن هذه الاشكال عن ذاتها، بما فيها من خصوصية فردية، ولا ان تعرض (للوعي) بشكل مباشر عن (الميتافيزيقي) المُتضمن منها، بل كانت اشارة الى (الماورائي) وتلميحاً إليه.
Comments powered by CComment