آنية الفخار الرافدينية
يرجع اختراع إناء الفخار على أرض الرافدين، الى مطلع الألف السابع قبل الميلاد، ومدعاة ذلك التأخير في التراتبية: يعود إلى أن صناعة الفخار تحتاج الى معرفة علمية بكيمياء المواد، أكثر من عملية إنجاز الرسوم والمنحوتات الحجرية والطيني



أكدّت (التاريخية) إلى أَن أقدم إنجازات الفكر الإنساني في الفنون، تَعود إلى (30000 سنة ق.م) مُتمثلة برسوم ومنحوتات الكهوف. في حين تراجع اختراع إناء الفخار على أرض الرافدين، الى مطلع الألف السابع قبل الميلاد، ومدعاة ذلك التأخير في التراتبية: يعود إلى أن صناعة الفخار تحتاج الى معرفة علمية بكيمياء المواد، أكثر من عملية إنجاز الرسوم والمنحوتات الحجرية والطينية.
لم تكن عملية الاختراع نتيجة الصُدفة، إنما قامت على فعل التجريب بعدّه وسيلة لتكامل الخبرة. فحين عرف الأنسان في حينه: أن الحرارة تُصّلب الأجسام الطينية، نقل تلك الخبرة إلى مجال التطبيق، فكانت نتائجها بسيطة في البداية، إلا أنها سُرعان ما تَطورت من إبداعات رديئة الحّرق إلى آنية صلبة جيدة الفَخر.
شكل الأناء الفخاري: بناء هندسي يشبه منظومة خطوط العمارة بعد رفع كتل البناء عنها، فقوامه تركيب تجريدي لا يشبه شيئاً إلا نفسه. تتفعل جماليته من خلال تركيب عناصره البنائية، بوصفه (بناء) منغلق على نفسه، تُؤسسهُ حركة الخطوط المُتخيلة في ذهنية الفنان. نوع من الشعر قوامه تركيب الألفاظ والكلمات، إذ تحوّل الشكل فيه إلى مضمون.
خامة الأناء الفخاري عبارة عن مُركب كيميائي، يُخشى انفجاره أثناء عملية الحَرق. وبغية إخراس الإعصار، لابد من تحويل واحدية الخامة نحو تَعددها، فَتُعجن الأطيان مع مركبات أخرى تُحيلها الى صيرورة جديدة. وذلك فِعلُ وقائي يَحمي الخامة من عدوانية الحرارة، التي سَترغمها إلى التحول من حال إلى حال آخر، إثرَ المُتغيرات الخطيرة في تفاعل عناصرها.
شُكلّت الآنية الفخارية في عصر قبل الكتابة على أرض الرافدين، بالطريقة اليدوية، التي تتطلب نشاطاً حرفياً واستعداداً مَهارياً، لأصابع اليدين وهي تتعايش في ألفة أليفة مع كتلة الطين. فالتأمل والخيال وحدهما اللذان يَقودا فعل الأبداع في تناسب الأشكال وكمالها، برؤية جمالية للشكل الذي ينبني داخل شرنقتهِ، كتلك الرؤية التي تُميز تماثيل (مايكل أنجلو) المكتملة بسبب عدم إنهائها، حين يَجلي الغبار عن أشكال مُتخفية في كتل الرخام كان يراها وَحدهُ.
والطريقة اليدوية الأكثر شيوعاً في بناء الأوعية، تنتمي الى قوانين العمارة، أكثر من انتمائها لفن الفخار، إذ أنها تعتمد على بناء اللوالب الطينية (الحبال) Coils على قاعدتها تدريجياً حتى بلوغ الارتفاع المطلوب. فيتطلب الارتفاع بالكتلة، نوعاً من السيطرة الذهنية واليدوية على قوانين الارتكاز والتوازن في مُنعطف، والسيطرة على حركة الخطوط وشاعريتها الإيقاعية، وهي ترتفع تدريجياً في الفضاء، مشيدة هيئة الآنية الخطية في مُنعطف آخر.
ابتكر السومريون دولاب الفخار السريع الدوران لتشكيل الآنية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، لتلبية الطلب الاجتماعي المتزايد عليها. الأمر الذي استوجبَ وجود نوعاً جديداً من الوعي التقني والجمالي للخامة، إذ إن ذلك الفعل التقني يحتاج الى نوع من خاصية الاستجابة، لاستعداد الخامة على التشكل السريع، بفعل حركة الآلة السريعة أثناء عملية البناء. وذلك شأن أشبه بالرهان، بمراقبة ما يَحدث في حينه، وما يَعقب ذلك من حُدوث، والمُشكل بأكملهِ، يحتاج إلى مُراقبة عقلية وبصرية دقيقة للشكل، الذي ينمو سريعاً. فالضغط اليدوي على كتلة الطين الرقيقة، يُفسد العمل الفني، وربما يؤدي ارتخاء اليدين الى نفس النتيجة، تُرى ما أصعب أن تُشيد عمارة من دُخان.
إن إشكالية الوعي الجمالي بأنية الفخار، هي تداوله في قضاء حاجات الإنسان اليومية. فوظائفهِ تلك تتدخل بشكل (سافر) في تحديد منظومة أشكالهِ، ولا ضير في ذلك لأن نشدان الجمالية، كامن في تعالق خاصية الوظائف وأنظمة الأشكال. وإن آلية فصل المنفعة عن الجمالية في الفخاريات الرافدينية، هي فكرة كامنة في مُخيلتنا فقط. فمن المستحيل إقامة خط فاصل بين خصوصية المنفعة والإحساس الجمالي، كونهما مندمجان في كل واحد مثل اندماج المهارة بالصنعة.
لامَست قطع الحجر والحصى مئات المرات، سطوح الآنية الفخارية، لإزالة الزوائد الطينية بالقشط Turning، أو صقلها بالدّلك Burishing. وجوهر هذين الفعلين هو مثابة هيمنة للذاتي على الموضوعي، إنه الحفر في منطقة (النص) لإبلاغه تمظهراتهِ الجمالية، نوع من التصحيح في حراك الخطوط الشاعري، لإيصاله الى إيقاعه الهندسي الجميل، فالعملية في جوهرها تُعدّ الجذر التاريخي لتقنيات الحَك والشطب التي تُصّنع السطح الجمالي البصري لرسوم الفن المعاصر. نوع من المثاقفة بين أجناس الفن وتواريخها، إمعاناً بتأسيس سطوح جمالية، تدعونا للتحرر من قيود المظهرية المباشرة، سعياً لتحقيق وجود حقيقي وجوهري.
تبتلع النار كل الأشياء التي تُلقى فيها وتحيلها الى عدم، ما عدا الأطيان، فانها تُسهم في نُضجها، بإحالتها الى فخار. فذلك النوع من الفعل الوجودي رغم فضيلتهِ، فانه يُعدّ من أخطر الفعاليات في خاصية الصنعة، فأي زيادة او نقصان في (فعل) الحرارة، يُحيلان الأناء الفخاري الى عدم. فالحاجة ماسة الى تناسب (رقمي) في آليات التفاعل، وذلك يَتطلب خبرة وتجريب كبيرين، لتحقيق العملية الإبداعية بهذا الخصوص.
يَعتقد البعض خطئاً، أن الموضوعي ــ النار ــ هو المُنتصر الأبدي على الذاتي ــ الفنان ــ في خاصية الصنعة. بوصفها الفعل المُقرر لإبداع الأجسام الفخارية على وفق إرادتها. والصحيح هو أن الذاتي المُتجسد بالتطور العلمي والتقني، هو القصد والإرادة، الذي استقدم النار لدائرة عمل الفن. شريطة التحكم المصُيب بالعملية التقنية، كي لا تتحول الى عقاب من دون ثواب.
حين ازدانت السطوح البصرية لآنية الفخار، بالرسوم الملونة، والمشاهد النحتية المُنفذة بالحفر أو الإضافة. أصبح الأناء الفخاري بمثابة الأحجية التي تُفسّر المفاهيم المتحركة في الفكر الاجتماعي. بعدّهِ حاملاً لثقافة عصِره، ومحدداً بمنظومة من الضاغطات الفكرية المهيمنة في بنية حاضنه الحضاري. إذ إن ما عَرضته الرسوم والمنحوتات، يُعدّ نوعاً من التأويلات الشكلية الرمزية لمفاهيم الانسان ومعتقداته، بوصفه خطاباً أو بلاغاً شكلياً، مكَّن الأنسان ان يتداول ما في داخليتهِ من خِبرات وأحاسيس. وبفعل تداوله لمقولات الآنية في الممارسات الاجتماعية، أن اصبحت مثابة اصطلاحات، لا تتطلب استغراقاً ذهنياً خاصاً من قبل الفرد أو الجماعة، لفك مغاليق دلالاتها الرمزية.
سواءُ أكان الأسلوب المُتبع في إنجاز الرسوم والمنحوتات، يقوم على تقنية نَسخ معطيات التجربة الخارجية (وذلك أضعف الأيمان)، أم يرتقي نحو التأويلات الذاتية بفعل هيمنة سلطة الذاتي على الموضوعي، أو تتسامى آليات الإظهار، نحو التجريد الذي يتجاهل المرئيات نحو (الحدس) الكامن في المُتخيل ما بَعدَ المشهد التشكيلي، عندئذ تتشظى دلالة المشهد الى كل ما تُومئ إليه من أفكار في حراك الفكر الاجتماعي.
فحين اقتحم إناء الفخار أسيجة المعابد، واجهَ عالم الكهنوت، والدائرة الواسعة من الشعائر والطقوس الدينية. فأصبحت المعرفة الجمالية بمثابة الكشف عن الأنسان وعن الأشياء في خاصياتها (العميقة) الذاتية، كونها أتاحت لنا الفرصة لأن نَتنبأ عما وراء الأنسان من مُدركات، تُعدّ بمثابة ولائه للقوى (الكونية) المُهددة لوجودهِ. إذ أظهرت نتائج الاكتشافات الأثرية، ان أروع آنية الفخار الملونة او المُزينة بالأشكال النحتية، كانت ودائغ قبور، أي انها أدوات جنائزية، كانت مثابة نداء نحو المجهول، لنيل حسن الحال في عوالم ما بعد الموت المُعتمة المعالم.
فَهِمَ الفنان نظام العلاقة التصميمي، بين المشاهد المُمثَلة والسطوح البصرية للأنية. فقّدم حلولاً لنظم العلاقات ما بين رسوم السطوح الخارجية والداخلية، وعلاقة ذلك بآليات إظهار مسرحة الأحداث، وأساليب سرد الوقائع، وإدراك مراكز انظمة التصميم التصويرية وعلائقها الجمالية المتناسبة، مع العقد الفكرية الاساسية في (دراما) مسرحة المشاهد التصويرية، بالتركيز على الأساسي واستثناء الثانوي، في الخصوصيات الموضوعية والشكلانية للمشاهد.
فمشاهد الصحون التصويرية، تتركز على السطوح الداخلية للآنية وتدور مع دورتها الى ما لا نهاية من المفاجئات الشكلية، أما رسوم الأوعية العميقة كالجرار فإنها تشغل سطوحها الخارجية، إذ تتركز على اكتاف الآنية وأبدانها المخروطية، فتوفر استدارة تلك السطوح التصويرية تأكيداً لبداية المشهد وتُخفي نهايته. فالفكرة هنا أشبه بدوران الختم الاسطواني، الذي يعود كل مرة حين يُدحرج على سطوح الطين المستوية الطرية، الى تأكيد نفسه في خصوصيتهِ.
فالزمن عامل فاعل في سرد الأحداث، وكذلك اتجاهات حركة المفردات التصويرية، وهيمنة بعضها على البعض الآخر. في حين يُشّفر تكرار الوحدات التصويرية في المشاهد، إلى تأكيد المعنى في مَلمَح، وتحقيق نوع من الزخرفية الجمالية في نظام المشاهد المصورة في مَلمَح آخر.
لعل أجمل روائع مُتحف الفخار العراقي، كانت نسقاً من اشكال الصحون من دور حلف (5000 ق.م)، التي يمكن وصفها على انها لوحات مرسومة، عوضاً عن كونها آنية فخارية. وتضم تلك المنظومة اللونية سلسلة من الآنية، تُزين سطوحها الخارجية اشرطة ضيقة، حَصرت بداخلها وحدات شكلية هندسية كأشكال الخطوط المتموجة أو أشكال المثلثات والمعينات. بوصفها استبدالات فكرية عن الصور المُدركة حسياً، فصلة التشبيه المادية المنظورة، قد تَمّت الاستعاضة عنها بصلة روحية (مُتضَمنة) هي صلة الرمز. فَبدت تلك التقابلات واضحة في منظومة الأشكال المرسومة، بشكل (صيرورة) رمزية، تضم عالم الحواس بصفتها المُثيرة للمشاعر، وعالم الروح بعدّها كشفاً عن بنية المعتقد الاجتماعي.
أما الشكل المركزي المُهيمن في المشهد، فيقع في مركز السطح التصويري الداخلي للأناء، ويتمثل بعدد من الأشكال الرمزية، التي استعارها الفنان من بيئتهِ الطبيعية، وأولّها شكلاً ومضموناً، على وفق إشكالاتهِ الفكرية الاجتماعية. ومن أمثلتها زهرة البيبون البرية التي احتلت مركز السطح البصري لأحد الآنية، والتي يدور حولها اشرطة ضيقة لأزهار من النوع نفسه، لتأكيد خطابها الرمزي في بنية المشهد. لتتناسل دلالة الرمز في حِراك الفكر الاجتماعي، فتبلغ إضافة إلى إيقاعها الشكلي الجمالي، عن حزمة من الدلالات المشفّرة عن الرغبة بوفرة المحاصيل الزراعية وديمومة الرخاء في تفاصل حياة الإنسان. بكل ما يعنيه (الربيع) من دلالات فكرية لشعب أرض الرافدين، الذين أحبّوا اللون والباليت قبل عصر الانطباعية بأكثر من ستة آلاف سنة.
Comments powered by CComment