
مقدّمة
بقلم د. بهنام ابو الصوف ( مستلة من مؤلفه الموسوم التاريخ من باطن الارض ).
في ما يلي مجموعة من البحوث والدراسات الآثارية، هي نتائج تنقيات وأعمال ميدانية قام بها المؤلف بنفسه، أو أشرف ميدانياً وعلمياً على بعضها (تنقيبات إنقاذية شاملة في حوضي سدي حمرين في منطقة ديالى شرقي بغداد، وأسكي موصل في محافظتي نينوي ودهوك) بين الأعوام 1956 وحتى مطلع ربيع 1986 عند تقاعده من العمل الوظيفي. والبدء بموضوع مواطن الآثار في حوض سد دوكان والتنقيب في موقع باسموسيان (الرقم1) كان بسبب إنجازه عند بداية التحاق المؤلف بالعمل في مؤسسة الآثار في أواخر تموز 1955 بعد تخرجه مباشرة في قسم الآثار والحضارة في كلية الآداب. فقد ذهب صحبة المرحوم الآثاري محمد علي مصطفى إلى منطقة الحوض في سهل بتوين في شهر أيلول من نفس العام. حيث قاما بمسح آثاري شامل للمواقع التي ستغمرها مياه الحوض بعد الانتهاء من تشييد السد، وقد أنجزا هذا المسح إما مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل عند توفرها. وعلى طرفي نهر الزاب الأسفل، وخلال أسبوعين تم إحصاء ما لا يقل عن أربعين موقعاً أثرياً معرضاً للغمر، يشار إلى وصف مختصر لغالبيتها في ثنايا هذا البحث وقد أوصينا، في التقرير الذي أعددناه بنتائج المسح هذا التنقيب في عدد كبير من التلال في منطقة الغمر كان من بينها تل ياسموسيان، الذي كان العمل فيه من حصة المؤلف مع عدد من الزملاء من منتسبي مؤسسة الآثار في صيف عام 1956، وتعرض نتائجه أيضاً ضمن هذا البحث. كانت عمليات التنقيب في باسموسيان تجربة المؤلف الأولى في أعمال التنقيب إثر تخرّجه من الكلية، إلا أنها كانت تجربة غنية بحلوها ومرّها فقد استطاع المؤلف على الرغم من صغر سنّه تحقيق نتائج جيدة وذلك بفضل تعاون زملائه أعضاء فريق العمل، ومنهم بالذات الكوادر العمالية (الأسطوات) وخصوصاً المرحومين عيسى الطعمة ومحمد الأحمد الحميضة، وبقية الأسطوات الشرقاطيين الذين منحوه وبسخاء خبرتهم وتجربتهم الطويلة في أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار وذلك للهفته على التعلّم منهم والجلوس معهم في خنادق التنقيب طويلاً والاستماع بجد إلى شروحاتهم وملاحظاتهم وكان لهذا كله جوانب ايجابية مجزية بقت تلازمه وترافق تنقيباته في كل موقع أو منطقة عمل فيها حتى نهايات عمله الميداني في الآثار في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم. أقمنا مخيم هيئة التنقيب قرب شاطئ الزاب الصغير الغربية حيث يقوم موقع باسميان على مسافة نصف كيلومتر باتجاه مغيب الشمس والذي تغطّي سفوحه الشرقية قرية باسموسيان الكردية ورئيسها الشيخ كاكه حمه والذي كان لتعاونه معنا الأثر الكبير في نجاح مهمتنا العلمية خلال موسم التنقيب. وعلى الرغم من أشهر الصيف الحارة إلا أن مناخ المنطقة كان معتدلاً، عدا ما كان يعكّر هذا الاعتدال من الرياح الشرقية اللاهبة والتي يطلقون عليها محلياً اسم الرشبه (أي الهواء الأسود). وكانت هذه الرياح تحيل حتى ليالي الصيف الباردة نسبياً إلى فرن لاهب، فكنا نقدم على التخفيف من ملابسنا والغطس في مياه نهر الزاب لتفادي سموم الرشبة. وإحدى موجات هذه الرشبة أثارت حريقاً، في أواخر شهر تموز، صار يتقدم نحو المخيم ليحيق به من جهاته الثلاث فصرنا كلنا ومعنا العمال الشرقاطيين وسكان القرية نكافح لإطفاء النار محاولين إبعادها عن المخيم وذلك بالضرب على حافات اللهب بأوراق التبغ الخضراء التي نزعناها من مزارع التبغ القريبة. ومن مجموعة بحوث تقنيبات تل الصوان، قرب سامراء في وسط العراق، كانت أقدم نتائج تنقيبات الموسم الرابع (الرقم2). لقد كان الهدف من وراء اختيار هذا الموقع لعمليات تنقيب شاملة في حينه سبب كما هو موضح في مقدمة البحث عن نتائج أعمال هذا الموسم: أولهما الكشف في هذه المنطقة من وسط العراق عن ما قد يشير إلى احتمال العثور على بقعة التلاقي الحضاري بين الشمال والجنوب في أواخر العصر الحجري الحديث (الألف السادس ق.م)، وثانيهما التعرّف على المزيد من بقايا عصر سامراء لما قبل التاريخ، إضافة لفخارياته المعروفة سابقاً في مواقع الشمال وفي عدد من القبور وجدها هرتزفيلد في مطلع القرن العشرين في مكان ما أسفل بقايا قصر الخليفة في سامراء عند الحافة الشرقية لنهر دجلة. وقد جاءت نتائج تنقيبات الموسم الأول وما أعقبها من أعمال (نتائج تنقيبات الموسم الخامس في أدناه- الرقم 3) مصداقاً لكل التوقعات إضافة للكشف عن بقايا عمارية وأدلة دفاعية ولقى وتماثيل من الحجر الشمعي التي يكشف عنها لأول مرة في هذه البقعة من بلاد الرافدين أو الشرق الأدنى القديم.
إن مجموعة مواسم التحري والتنقيب في تل قالينح آغا الكائن وسط المنطقة السكنية في مدينة أربيل، جنوب قلعتها وعلى يسار الطريق العام الذاهب إلى كركوك، كان بسبب عائديته مع ما يحيط به من أراضي لأحدى عوائل أربيل والتي أعلنت عن رغبتها في تقسيم هذه الأراضي بما فيها الموقع الأثري وبيعها للمواطنين للبناء، مما دفع مؤسسة الآثار إلى استملاكها بأكملها، بعد أن تأكد لأجهزتها العلمية، نتيجة لموسمين من أعمال السبر والتحري قصيرين (كان الأول لمدة ثمانية أيام من 29 كانون ثاني – شباط 1967، والثاني للمدة من 4-31 آذار 1967) أعقب ذلك كله تنقيبات شاملة في صيف 1968 (17 حزيران-5 أيلول) نشرت نتائجها كاملة بالعربية والإنكليزية في سومر المجلد15 سنة 1969 (الرقم4) وقد أظهرت كل هذ الأسبار والتنقيبات الشاملة أدلة تؤكد أن تل قالبنج آغا قد سُكن لأزمان متعاقبة خلال الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد في أدوار حلف والعبيد والوركاء، وربما كان السكن قد انقطع فيه في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. إضافة إلى العدد الكبير من اللقى الأثرية المكتشفة خلال أعمال التنقيبات الشاملة في صيف عام 1968 بما فيها الفخاريات والدمى الطين والحرز والخرز والقلادة الكاملة من الذهب وروؤس العجول ذات القرون من الطين وأشكال آلهة العيون الكبيرة العدد من الطين (Eye-ldols) وغيرها، كما أن الطبقة الثالثة في الموقع والتي يعود تاريخها إلى عصر الوركاء كانت غنية أيضاً بالبقايا العمارية. وقد كشف فيها عن حيين سكنيين يفصل بينهما شارع ينحدر نحو الغرب وينتهي عند سفح التل قرب مسار الشارع المحاذي الذاهب إلى كركوك. يتوسّط كل من هذين الحيين معبد ثلاثي التخطيط البنائي(Tri-partite) يقوم كل منهما على مسطبة من اللبن، قد تكون هي ومثيلاتها في تل العقير في وسط العراق البدايات الأولى لمباني الزقورات اللاحقة التي تميّزت بها عمارة الألف الثالث ق. م. وما بعده في بلاد الرافدين. هذا وإن جدران غرفة المصلى في معبد الحي الغربي أسفل الجدار الشرقي لهذه الغرفة بقايا إفريز منقوش باللونين الأحمر والأسود على الأرضية (الطلاء) البيضاء بأشكال معينات.
في البحث رقم 5 كلام مقتضب للمؤلف عن نتائج التنقيبات الإنقاذية الشاملة في حوض سد حمرين في منطقة ديالى شرق بغداد والتي أُنجزت من قبل بعثات تنقيب عراقية، بما فيها جامعتي بغداد والموصل، وبعثة عربية لمنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة المرحوم الدكتور برامكي رئيس قسم الآثار في الجامعة الأمريكية في بيروت وعضوية الدكتور إبراهيم أبو غوش مسؤول الآثار في المنظمة مع لفيف من طلبة وطالبات الجامعة، بالإضافة إلى عدد كبير من بعثات التنقيب الأجنبية؛ أوروبية وأمريكية وكندية ويابانية، وذلك للأعوام 1977-1980 وقد كان المؤلف مشرفاً علمياً وإدارياً على كامل أعمال التنقيب في الحوض، وضم المقال رقم 6 خلاصة بأعمال التنقيبات الانقاذية الواسعة في حوض سد أسكي موصل في شمال العراق، للبعثات العراقية والأجنبية للأعوام 1980-1986 فقد كان المؤلف أيضاً مشرفاً علمياً على هذه الأعمال إضافة إلى عملة مديراً عاماً لآثار ومتاحف المنطقة الشمالية في حينه، والبحث رقم 7 والذي عنوانه: تاريخ منطقة الموصل القديم والذي كان قد نشر ضمن بحوث موسوعة الموصل الحضارية الذي أصدرته جامعة الموصل. والموضوع يضم خلاصة بتاريخ وحضارة منطقة الموصل العتيقة المطلّة على نهر جلة في جزئها الشرقي، ولقد كان هذا التل المرتفع، والذي يطلق عليه محلياً اسم قليعات، حصناً أو قلعة آشورية، وواحداً من عدد كبير من القلاع الآشورية الدفاعية إلى الغرب من العاصمة نينوى عبر نهر دجلة خلال وجود الآشوريين في المنطقة منذ أواخر الألف الثالث ق. م. وحتى سقوط العاصمة نينوى في العام 612 ق. م. على أيدي التحالف الكلدي الميدي. واكتشاف منشآت ري بابلية محاذية لنهر دجلة في منطقة خضر الياس في جانب الكرخ من بغداد هو البحث الأخير ذو الرقم 8 في هذه المجموعة من بحوث نتائج الأعمال الميدانية للمؤلف والذي يلخّص نتائج أعمال الحفر والاستكشاف التي رأسها المؤلف خلال صيف عام 1975 حين كان العمل جارياً في تشييد جسر باب المعظم ومقترباته في جانب الكرخ، حيث اصطدمت أعمال الحفر ولا تزال أساطين الجسر في هذه الناحية من الشاطئ في جانب الكرخ ببقايا جدران من الطابوق المربع الشكل وبأحجام كبيرة، مما هو معروف في أبنية مدينة بابل التاريخية على أيام العاهل الكلدي - البابلي نبوخذ نصر الثاني (605-562ق. م.) وفي غيرها من أمهات بلاد الرافدين، وقد امتدت أعماله العمرانية إليها. وقد جاءت نتائج أعمال الحفر الميدانية والدراسة المقارنة للمعطيات التاريخية والنصوص المسمارية، كما طرحها المؤلف مرجّحة لأكثر من احتمال عن ماهية هذه المنشآت بكونها شاذرواناً أو مسناة أو سوراً (وهذا الأرجح) شيّده نبوخذ نصر بدايته فوق مدينة أوبس على دجلة ونهايته عند سبار (أبو حبة) على الفرات لصد احتمال هجوم أعدائه الميدين على العاصمة بابل ولهذا يدعوه البعض باسم السور الميدي.
Comments powered by CComment