
لما تقرر البدء بتنفيذ سد أسكي الموصل، في محافظتي نينوى ودهوك في آواخر السبعينات، قام عدد من الآثاريين في دائرة آثار محافظة نينوى بإجراء الدراسات والمسوحات اللازمة لإحصاء التلال والمستوطنات الآثرية التي ستتعرض للغمر بمياه البحيرة الواسعة التي ستنشأ من إجراء تشييد هذا السد وقد أعدت بنتيجة هذه الدراسة خارطة تفصيلية تضم عشرات التلال والمباني المندرسة والمغاور والقلاع التي تنتشر بقاياها في ربوع الوادي على طرفي نهر دجلة، والتي كانت يوماً مأهولة بالسكان في مختلف حقب التاريخ.
بعد استكمال العديد من الأعمال التمهيدية وتخصيص مبالغ سخية رصدتها الدولة في خطتها الخمسية 1981-1985، بدأت الدائرة الشمالية للآثار والمتاحف أعمال حملة التنقيبات الإنقاذية الواسعة في الحوض في عدد من تلال ومواقع الطرف الشرقي من الحوض في منطقة فايدة، بين الطريق العام الذاهب إلى هوك، ونهر دجلة ومن أبرز هذه المواقع: جمبور، بقاق، كري قاسم، جيكان، خرابوك، مشرفة، كرهول، شعبو، جالوقة، زهرة خاتون، كرانة والعديد غيرها. كما قامت جامعة الموصل بنفس الوقت بالتنقيب في تلال مصيفنة وسلال وضويج في منطقة زمار إلى الغرب من نهر دجلة.
وتلبية لدعوة مؤسسة الآثار العراقية، بدأت بعثات تنقيب من اقطار خارجية مختلفة تصل القطر منذ ربيع 1982 للمساهمة في حملة التنقيبات الإنقاذية في حوض سد أسكي موصل، فعملت بعثة إنكليزية في عدد من المواقع على طرفي دجلة منها: محمد عرب، خاتونية، خربة شطاني، قصرج، ديرستون، سيانات ووادي السويدي، ونقّبت لموسم واحد بعثة نمساوية في تل عنزة، وأخرى فرنسية في تلال كوتان وكرخوش وعثرت على عدد من مقارّ إنسان العصر الحجري القديم من قسمه الأسفل ومخلّفاته من الأدوات الحجرية على أكتاف بعض الوديان المنحدرة إلى نهر دجلة في هذه البقعة من الطرف الشرقي من الحوض وعملت بعثة جامعة كوكوشيكان اليابانية في مجموعة من التلال على طرفي نهر دجلة في منطقتي فايدة وزمار منها: جيكان، فسنة دير هال، مشيرفة، جيساري، ضويح وقصر البنت، وقامت بعثة جامعة وارشو البولونية بإجراء مسوحات أثرية على مصاطب نهر دجلة التي تحف بمجراه في منطقتي رفان وفايده وسجلت عدداً من مستوطنات إنسان العصر الحجري القديم إلى الجنوب من مركز ناحية زمار على ضفة دجلة الغربية. كما وقفت على بقايا أقدم قرية زراعية من بداية العصر الحجري الحديث عند قرية نمريك إلى الغرب من فايدة على ضفة دجلة الشرقية ونقبت فيها كما نقبت في موقعي رفان ورجم عمر دلة وعملت بعثة سوفيتية من أكاديمية العلوم في موسكو لموسم واحد في تل شيخ حمصي على ضفة دجلة الغربية إلى الشمال من مركز ناحية زمار ونقبّت بعثة إيطالية من جامعة تورينو في موقع حتارة إلى يسار طريق موصل - دهوك العام. وحفرت بعثة مشتركة من جامعة هامبورغ في ألمانيا وجامعة نابولي الإيطالية في موقعي كرانة 3 وخربة صالح، وأجرت بعثة جامعة هايدلبرغ في ألمانيا حفريات قصيرة في مستوطن واسع في عقار بابيرة.
أظهرت نتائج المسوحات السطحية والتنقيبات الواسعة التي أُجريت في عدد كبير من مواقع الحوض خلال ما يقرب من خمس سنوات أن وادي دجلة في هذه المنطقة من شمال العراق كان مأهولاً بالسكان بشكل كثيف وعلى طرفي النهر ومنذ أكثر من ربع مليون سنة ابتداءً من العصر الحجري القديم مرورا ًببقايا الاستيطان في أوائل عصر القرى الزراعية قبل معرفة صناعة الفخار وبعده مباشرة في أدوار جرمو وحسونة وسامراء وحلف والعبيد في الألفين السابع والخامس قبل الميلاد، كما أن غالبية مواقع الحوض قد شهدت سكنى كثيفة خلال عصر الوركاء في الألف الرابع قبل الميلاد والفترة اللاحقة من بداية الألف الثالث ق. م. والتي تعرف في الأقسام الشمالية من العراق وشمال سوريا بعصر نينوى الطبقة الخامسة، وهي تعاصر في وسط وجنوب بلاد الرافدين المراحل النهائية من عصر جمدة نصر والفترة الانتقالية إلى بداية فجر السلالات السومرية، وقدمت بعض تلال حوض السد إشارات مؤكدة من زمن الإمبراطورية الأكدية في النصف الثالث ق. م. تعقب ذلك وفي معظم مواقع التنقيب لقى وفيرة وبقايا بنائية من مرحلة بداية الألف الثاني ق. م. وحتى منتصفه وأبرز تلك اللقى الفخاريات المميزة لهاتين المرحلتين والمعروفة بفخاريات الخابور وما يعاصرها من فخار العصر الآشوري القديم وكذلك فخاريات العصر الآشوري الوسيط وفخار الخوري ونوزي الذي يعاصره.
تلي ذلك بقايا بنائية وفخارية من مرحلة العصر الآشوري الحديث في النصف الأول من الألف الأول ق. م. تعقبها إشارات من مراحل الغزو الفرثي الفارسي والساساني لهذه المنطقة وكشف عن مبانٍ وقلاع وبقايا مدن من زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية من أواخر العصر العباسي وفترات الحكم الإتايكي والإيلخاني للمنطقة. وقد وجدت بقايا بعض مباني هذه المرحلة بحالة جيدة تغطيها الأنقاض والأتربة كمباني مواقع خرابوك وشرفية وزهرة خاتون وبقاق 3 و4 وكلها مشيّدة بمادة الجص والحجارة أو الطابوق.
إن أبرز اكتشاف حصلت عليه الأوساط الآثارية المتخصصة من نتائج تنقيبات ومسوحات حوض سد أسكي موصل في الفترة الأخيرة والذي يلقي الضوء على التحرّكات البشرية الواسعة في مرحلة موغلة في القدم من حياة قطرنا ومنطقتنا العربية هو التوصل إلى اكتشاف مخلفات مؤكدة لإنسان العراق خلال المراحل الأولى من العصر الحجري القديم يرجع زمنها إلى أكثر من ربع مليون سنة مضت. وهذه المخلّفات ممثلة بآلات وأدوات ذلك الإنسان في عدد كبير من المقار على مصاطب نهر دجلة الأربع التي خلفتها العصور الجليدية خلال دهر البلايستوسين في المليون سنة الأخيرة من عمر الأرض، فقد عثر على ما يقرب الأربعين مستوطناً لإنسان العصر الحجري القديم الأسفل على مصاطب نهر دجلة الكائنة فوق قرية رفان العليا إلى الجنوب من مركز ناحية زمار كما عثر على ما يقرب نصف هذا العدد من مقار ذلك الإنسان على مصاطب دجلة الشرقية وأكتاف الوديان المؤدية إليه جنوب مركز ناحية فايدة وأبرز تلك الآلات المصنوعة من الحجر مفارم وفؤوس ومقاشط كلها من الصناعة المعروفة بالأشولية والممثّلة لتلك الفترة السحيقة من العصر الحجري القديم. إن الظاهرة البارزة على هذه الآلات والأدوات الحجرية أنها ومثيلاتها المكتشفة على طرفي نهر الفرات في حوض سد القادسية في أوائل الثمانينات والأخرى التي عثر عليها في غرب كربلاء بين منخفض الرزازة ومنطقة الأخيضر في أوائل السبيعينات كثيرة الشبه بما اكتشف سابقاً من هذا النوع من اللقى الحجرية ومن نفس الفترة الزمنية في هضبة الجزيرة العربية الشمالية.
إن الدراسة المقارنة لهذه المواد الحجرية تؤكد المسار الذي اتخذه إنسان المنطقة العربية وكان دائماً يتّخذه في الأزمان اللاحقة الأكثر حداثة باتجاهه نحو وديان الأنهار العظيمة وهو يؤكد في نفس الوقت أن جزيرة العرب هي موطن معظم الموجات البشرية التي استقرت في بلاد الرافدين وبلاد الشام وفلسطين ووادي النيل ومنذ العصور الحجرية القديمة. بقي أن نذكر أخيراً أن أنواعاً من الأدوات الحجرية من الصناعة الموستيرية اللاحقة (80-40 ألف سنة قبل الآن) والتي تتشابه مع مثيلاتها في بعض مقار جبال العراق الشمالية والشرقية وكهوفها قد وجدت أيضاً في بعض مقار ضفتي دجلة في حوض سد أسكي موصل شمالي مدينة الموصل، وهي من الصناعات المحلية في تلك المقار. والتي تطوّرت فيها على مرّ الزمن من قبل سكان تلك المناطق الذين كانوا ينحدرون أحياناً حاملين معهم أدواتهم وآلاتهم الحجرية إلى ضفاف نهر دجلة.
تاريخ منطقة الموصل القديم من الكهف إلى القرية:
شهد العراق بجباله وهضابه وسهوله وضفاف نهرية العظيمين دجلة والفرات تطورات أولى في تاريخ البشرية منذ ما يقرب ربع مليون سنة. فقد عاش على هذه الأرض وتجول إنسان العراق الأول في عصوره الحجرية القديمة. وكان ذلك الإنسان لا يزال يدرج، كما كان حال معاصريه في بقاع الدنيا الأخرى في مضمار التطوّر، فقد كان ينتمي إلى إنسان النياندرتال المنقرض الذي لدنيا نماذج عديدة من بقاياه العظمية في كهف شانيدار في محافظة أربيل، والتي تعاصر مثيلاتها في فلسطين في مغارة الصخول في جبل الكرمل. إن إنسان الكهوف العراقي هذا بدائيٌّ في شكله وفي طريقة معيشته. والفرد منه يتميّز برأس ضخم ووجه عريض وحاجبين بارزين وجبهة منحدرة إلى الخلف وذقن صغير يكاد يكون معدوماً. ومع أن طوله لم يكن يتجاوز الخمسة أقدام إلا بقليل، فإن مظهره الغليظ وصدره الواسع واكتافه العريضة كانت تكسبه ملامح خشنة وقاسية. وقد عاش إنسان النياندرتال في جماعات صغيرة معتمداً في حياته على جمع والتقاط ما تجود به الطبيعة آنذاك، كما كان يسعى وحيداً أو في جماعات لمهاجمة واصطياد الحيوانات الضخمة التي كانت تزخر بها بيئته القاسية. وكان سلاحه فؤوساً مدببة من لب الحجارة يهيّئها لهذا الغرض، فضلاً عن هراوات وعصى من أخشاب الأشجار.
لقد أثبتت الدراسات المقارنة لعلم الإنسان الجسديPhysical Anthropology في السنوات الأخيرة أن نوع إنسان النياندرتال الذي يسكن كهوف العراق وفلسطين في المراحل الأخيرة من عصر البلايستوسين قد مرّ بمراحل تطورية إحيائية سريعة خلال الـ 35- 40 ألف سنة الماضية نتج منها نوع عاقل من الجنس البشري له من الصفات والمظاهر والطباع ما يجعله مؤهّلاً ليكون السلف المباشر لجنسنا البشري الحالي في هذه المنطقة من العالم القديم، ومنها العراق بالذات، وإذا ما تذكرنا بأن عراقيي كهف شانيدار قد اعتنوا عناية خاصة بدفن موتاهم أسفل أرضية الكهف، وأنهم زوّدوا بعض أولئك الموتى بزهور برية كانت تنمو على سفوح الجبال وجدت بقاياها مدفونة عند رأس عدد من هياكلهم، كما قاموا بالاهتمام بالمعوقين والكسيحين من أبناء جنسهم أثناء حياتهم، تأكّد لنا التوجّه الإنساني المبكر لآولئك البشر سكان العراق الأوائل وأنهم ربما كانوا في طريقهم إلى تحقيق الطفرة التطورية الهائلة لبني نوعهم من البشر.
أكدت الدراسات والبحوث الآثارية لمرحلة العصور الحجرية في القطر، ومنذ أواخر العشرينات من القرن الماضي، على وجود مخلفات إنسان العراق في أكثر من بقعة من شمالي بلاد الرافدين ووسطه وغربه خلال العصور الحجرية القديمة والوسطى والحديثة، فقد عُثر على مخلفات إنسان العصر الحجري القديم من قسميه الأسفل والأوسط بهيئة آلات وأدوات حجرية معمولة أبرزها حجارة القطع، والفرم وبعض الفؤوس الحجرية الكمثرية الشكل والشظايا والمقاشط والسكاكين من الصناعتين الأشولية والموستيرية والتي حُدّد زمانها بين ثلاثمائة ألف سنة وثمانين ألف سنة قبل الآن في صحراء الرطبة ومنطقة الرزازة غربي كربلاء وعلى طرفي نهر الفرات في منطقة الفحيمي وجزيرة بيجان في حوض سد القادسية وعلى طرفي نهر دجلة في حوض سد أسكي موصل إلى الجنوب من مركز ناحية فايدة على الضفة الشرقية لدجلة وأكتاف الوديان المؤدية إليه في أطراف قريتي كرخوش وبابيرة المغمورتين بمياه الحوض الآن.
ومنطقة برده بالكة قرب مركز قضاء جمجمال في محافظة التأميم وفي الطبقة السفلى من كهف شانيدار في محافظة أربيل، كما عُثر على بقايا العصر الحجري القديم الأعلى (30000-12000 سنة قبل الميلاد) لأول مرة في شمالي العراق في كهفي زرزي وهزار مرد في منطقة السليمانية في عام 1928. وفي الطبقات العليا في كهف شانيدار في محافظة أربيل قرب راوندوز، وفي كهف بالي كوره في محافظة السليمانية وكهف ببيخال في محافظة أربيل وباراك في محافظة نينوى.
وقد أُطلق على هذه المرحلة الأخيرة من مراحل العصر الحجري القديم في العراق العصر البرادوستي نسبة إلى جبال برادوست التي يقع فيها كهف شانيدار ببقاياه المميزة لهذا العصر وعند نهايات هذا العصر في حدود 15 ألف إلى 12 ألف سنة مضت حين بدأ مناخ العالم بالتغيّر وقارب آخر عصر جليدي على الانتهاء وبدأت مرحلة الدفء والجفاف النسبي تسود العراق، ومنطقة الشرق الأوسط، أخذ العراقيون سكنة الكهوف في الأقسام الشمالية من العراق يهجرون كهوفهم لفترات طويلة وخلال أشهر الصيف يختارون فيها مقرات ومستوطنات وقتية في العراء، غير بعيدة عن أماكن كهوفهم تلك، قرب الينابيع والجداول ومجاري الأنهار وينزلونها مع عوائلهم وأطفالهم.
ومن أبرز هذه المقرات والمستوطنات الأولى التي حلّ فيها العراقيون إثر خروجهم من الكهوف، زاوي جمي على ضفة الزاب الأعلى الشرقية وهو ليس بعيداً من كهف شانيدار، وكريم شاهر بالقرب من مركز قضاء جمجمال في محافظة التأميم، وملفعات على الكتف الغربي لنهر الخازر قرب طريق موصل - أربيل في محافظة نينوى، ونمريك على ضفة دجلة الشرقية إلى الغرب من مركز قضاء فايدة في محافظة دهوك والمغزلية وقرمز دره غربي بلدة تلعفر في محافظة نينوى. وعشرات غيرها لم يكشف عنها البحث الآثاري لحد الآن. وفي هذه المقار والمستوطنات الأولى احتاج سكنة العراق الأوائل إلى ملجأ يحيمهم وأطفالهم من حرّ النهار وبرد الليل ومكان يجمعون فيه حاجاتهم وأدواتهم البسيطة فبدؤوا يخططون منازلهم الأولى، وكانت ثمة حفر دائرية في الأرض يرفعون جدرانها بالحجارة والطين ويسقفونها بالقصب وأغصان الأشجار فكانت تلك أكواخ العراق الأولى بشكلها الدائري، وأرضياتها مفروشة بالحصى أو الحجارة، وتتألّف في الغالب من حجرة واحدة، فتمَّ بهذا للعراقيين تعلّم البناء ومبادئ العمارة البسيطة قبل أكثر من اثنتي عشرة ألف سنة. وبقيت لهم خطوة أخرى إذا ما حققوها فسيضعون قدمهم على أول مرحلة نحو الاستقرار الذي يقود للحضارة، وهذه الخطوة هي الزراعة وتدجين الحيوان.
لم تمضِ على خروج سكان الكهوف من العراقيين واستيطانهم العراء غير ألفي سنة حتى بدأنا نواجه بين بقايا مقارهم تلك إمارات وأدلة على سيطرتهم على إنتاج القوت وبدء الزراعة وتدجين الحيوان، بعد أن كانوا ولألوف عديدة من السنين جامعين للقوت وصيادين، ومن هذه الإمارات حبوب متفحمة للقمح والشعير المزروعة في حقل والتي تختلف عن مثيلاتها التي تنمو برياً، وكذلك عظام وقرون للخراف والماعز مدجّنة وغيرها من الحيوانات الصغيرة، فضلاً عن آلات وأدوات من الحجارة للطحن والجرش والدق والحصاد. كالمناجل المصنوعة من شفرات من حجر الصوان والملصقة مع بعضها بالقار والمثبتة بمقبض من العظم أو الخشب لتصبح مناجل صالحة للحصاد بأيدي ماهرة ومدربة، بجانب هذا بقي إنسان العراق في بيئته تلك يصطاد أحياناً ويجمع القواقع والبلوط لغذائه أيضاً.
إلا أنه بدأ يسير حثيثاً نحو الاستقرار النهائي في قرى ثابتة نمتْ واتسعت وتعاقب فيها السكان خلال الألفين السابع والسادس قبل الميلاد. حيث بدأت مهارات فلاحي العراق الأوائل تزداد وتتنوّع فيها فأتقنوا فن العمارة وتشييد الدور من الطوف واللبن بأشكال مربعة أو مستطيلة وبعدد من الغرف تفي حاجات العائلة الواحدة. كما تعلّموا صناعة الفخار وتلوينه وحرقه وغزل أصواف الخراف وشعر الماعز وخيوط الكتان بمغازل أقراصها من الحجارة أو الطين وحاكوا منها أقمشة بجوم بدائية ثقالاتها من الحجارة أو الطين أيضاً. واستوردوا بعض الخامات ومواد الزينة من أقطار بعيدة كبلاد الأناضول والخليج العربي وشرق إيران وشمال أفغانستان.
إن توصّل الإنسان إلى معرفة الزراعة وتدجين الحيوان والاستقرار في قراه الزراعية الأولى يعدّ انقلاباً خطيراً في مسيرته الطويلة على سطح الأرض، ويؤشر هذا الانقلاب إلى بداية للعصر الحجري الحديث في منطقتنا وفي العراق بالذات. وقد أطلق عليه مؤرخو الحضارات القديمة ثورة العصر الحجري الحديث أو ثورة إنتاج القوت وأحياناً الثورة الزراعية.
إذ إنها قد نقلت البشرية من عهد طويل من التنقّل والسعي وراء القوت والصيد إلى مرحلة جديدة من الاستقرار والأمن وتشييد القرى التي نمت فيها المعارف والمهارات والتقنيات وتنوعت تبعاً لحاجات الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والفنية والعقائدية. وتطوّر العديد من هذه القرى الأولى خلال الألف الرابع قبل الميلاد في شمال ووسط وجنوب العراق إلى نواة لعدد كبير من المدن التي اشتهرت في بداية الألف الثالث ق. م. حواضر مزدهرة للعراق القديم في عصوره التاريخية اللاحقة كمدن نينوى، وسامراء، ونمرود، وآشور، وبابل، وكيش، والعقير، ونفّر، والوركاء، وأور، والعبيد، وتلو، وأريدو، والعديد غيرها، وقلاع الموصل، وتلعفر، وأربيل، وكركوك.
كان للموصل وإقليمها الواسع على طرفي دجلة دور بارز ومهم في حياة إنسان العراق الأول في عصوره الحجرية القديمة كما شهدت سهولنا الخصبة الفسيحة وباديتها الغربية البدايات الأولى للاستيطان الزراعي الدائمي لفلّاحي القطر الأوائل في مرحلتي ما قبل الفخار وبعدها في مفتتح العصر الحجري الحديث خلال الألفين الثامن والسابع قبل الميلاد وما بعدهما بقليل. لقد أثبتت الدراسات والمسوحات التي أجرتها فرق العمل الأثاري في حوض سد أسكي موصل في أواسط الثمانينات وجود مخلفات أكيدة لأنسان العراق خلال المراحل الاولى من العصر الحجري القديم يرجع زمنها إلى أكثر من ربع مليون قبل الآن. وهذه المخلفات ممثلة بآلات وأدوات ذلك الإنسان في عدد كبير من المقار وعلى مصاطب نهر دجلة الأربع التي كوّنتها العصور الجليدية خلال دهر البلايستوسين في المليون سنة الأخيرة من عمر الأرض. فقد عثر على ما يقرب أربعين مستوطناً لإنسان العصر الحجري القديم الأسفل على مصاطب نهر دجلة الكائنة فوق قرية رفان عليا إلى الجنوب من مركز ناحية زمار في الطرف الغربي من الحوض. كما عثر على ما يقرب من نصف هذا العدد من مقار ذلك الإنسان على مصاطب دجلة الشرقية وأكتاف الوديان المؤدية إليه جنوب مركز ناحية فايدة. وأبرز تلك الآلات المصنوعة من الحجارة مفارم وفؤوس ومقاشط وكلها من الصناعة المعروفة بالآشولية والممثلة لتلك الفترة السحيقة من العصر الحجري القديم. إن الظاهرة البارزة على الآلات والأدوات الحجرية أنها ومثيلاتها المكتشفة على طرفي نهر الفرات في حوض سد القادسية في أوائل الثمانينات والأخرى التي عثر عليها في غرب كربلاء بين منخفض الرزازة ومنطقة الأخيضر في أوائل السبعينات كثيرة الشبه بما اكتشف سابقاً من هذا النوع من اللقى الحجرية ومن نفس الفترة الزمنية في هضبة الجزيرة العربية الشمالية. إن الدراسة المقارنة لهذه اللقى الحجرية تؤكد المسار الذي اتخذه إنسان المنطقة العربية، وكان دائماً يتخذه في الأزمان اللاحقة الأكثر حداثة، باتجاهه نحو وديان الأنهار العظيمة في المنطقة. وهو يؤكّد في الوقت نفسه أن جزيرة العرب هي موطن معظم الموجات البشرية التي استقرت في بلاد الرافدين وبلاد الشام وفلسطين ووادي النيل ومنذ العصور الحجرية القديمة.
بقي أن نذكر أن أنواعاً من الأدوات الحجرية من الصناعة الموستيرية اللاحقة (80-40 ألف سنة قبل الميلاد) والتي تتشابه مع مثيلاتها في مقار جبال العراق الشمالية والشمالية الشرقية وكهوفها قد وُجِدت أيضاً في بعض مستوطنات ضفتي دجلة في حوض سد أسكي موصل شمال مدينة الموصل وأنها من الصناعات المحلية في تلك المقار والتي تطوّرت فيها على مرّ الزمن على يد سكان تلك المناطق الذين كانوا ينحدرون أحياناً حاملين معهم آلاتهم وأدواتهم الحجرية إلى ضفاف نهر دجلة طلباً للماء والقنص.
إن من أبرز منازل الاستيطان الأولى لطلائع فلاحي منطقة الموصل، بعد مضي ما يقرب من أربعة آلاف عام على خروجهم من الكهوف والتمرّس في مبادئ الزراعة وتدجين الحيوان، التي كشف عنها البحث الآثاري حتى الآن ملفعات على ضفة نهر الخازر الغربية إلى الشمال قليلاً من طريق – موصل- أربيل . وقرمز درة والمغزلية إلى الغرب من بلدة تلعفر. أعقب ذلك بنحو ألف سنة بداية ظهور قرى إقليم الموصل الزراعية الدائمية التي نشاهد بقاياها البنائية والفخارية وأدوات المنزل الخاصة بإعداد الطعام والتنانير والمواقد ومخازن الغلال وأقراص المغازل وثقالات جوم الحياكة وخرز وقلائد الزينة من العظم والحجارة والصدف والأحجار الثمينة وتماثيل صغيرة للأم الآلهة من الطين والحجر، ومواد أخرى عديدة تطلّبتها الحياة الجديدة المستقرّة في قرى الألف السادس ق. م. في أماكن عديدة منها أسفل طبقات تل قوينجق في مدينة نينوى التاريخية وأسفل تراكمات قلعة الموصل المطلّة على نهر دجلة في المنطقة المسمّاة بقليعات، والاربجية شرق مدينة الزهور بالموصل، وتبة كوره وتل جنجي وتل بلا قرب مدينة خرسباد التاريخية والطواجنة جنوبي مدينة الموصل بمسافة 18 كم على يمين الطريق الجديد موصل - كوير- كركوك، وحسونه في منطقة حمام العليل وإبراهيم عزو في منطقة السحاجي جنوب غرب مدينة الموصل ويارم تبه والثلاثات في منطقة تلعفر وكرى ره ش في منطقة سنجار وأم الدباغية إلى الغرب من مدينة الحضر التاريخية. وضويج وسلال ومصيفنة وشيخ حمصي في منطقة زمار من حوض سد أسكي موصل وجيكان ودير هال وكوشان وكرخوش في الطرف الشرقي من الحوض، والعديد غيرها سيكشف عنها البحث الأثاري في السنوات القادمة.
لقد مارس سكان قرى الموصل هذه حرفاً متعدّدة منها الزراعة والرعي وصناعة الفخار وتلوينه وحرقه وغزل الصوف وشعر الماعز وخيوط الكتان وحياكة الأقمشة. كما مارسوا التجارة بنوعيها الداخلية والخارجية فجلبوا حجر الزجاج البركاني من أماكن وجوده في وسط بلاد الأناضول، وقد سلكوا طريق شمال سوريا مروراً بمنطقة سنجار وتلعفر فقرى البادية الشمالية ومنطقة الحضر والقرى الكائنة على طرفي نهر دجلة في منطقة الموصل. وأتوا بصدف بحري خاص وعقيق لعمل قلائد لزينة النساء والأطفال من منطقة الخليج العربي، كما استوردوا الشذر من شرق إيران واللازورد من مناطق مناجمة في شمال أفغانستان.
إن اكتشاف التماثيل الصغيرة من الطين للنساء في كل هذه القرى دليل واضح على انتشار عقيدة تقديس الأم الآلهة عند سكان منطقة الموصل خلال هذه الفترة، كما هو الحال في بقية مناطق القطر والعالم القديم، لقد رمزوا إلى الخصب والعطاء والإكثار التي منحتها لهم الأرض بدمى صغيرة لنساء في حالة الحمل. فصارت المرأة لديهم رمزاً للخصب. والأرض المعطاة شبيهة بالمرأة الحامل وصارت كلتاهما الأرض والمرأة رمزاً للخصب والأرض شبيهة بالمرأة الحامل وأصبحت كلتاهما الأرض والمرأة رمزاً مقدساً للعطاء والحياة.
Comments powered by CComment