
نسخة مجلة سومر الاصلية ( هنا )
من يصل مدينة أربيل قادماً إليها من طريق كركوك يشاهد على يمينه (جوار الملعب الرياضي للإدارة المحلية) تلاً واسعاً يعلو عن مستوى الشارع المحاذي له بما يزيد على سبعة أمتار يدعي محلياً كرد (تل) قالينج آغا، ويتوسط هذا التل أرضاً خالية تقوم بلدية أربيل بإنشاء فندق سياحي فخم في طرفها الشمالي، ويشغل هذا التل الأثري مساحة كبيرة من الأرض تزيد على ثلاثين ألف متر مربع، وإن ازدياد رقعة المنطقة السكنية في أربيل في السنوات الأخيرة والتوسع العمراني الذي يشمل مساحات كبيرة وبعيدة عن مركز قلعتها المشهورة أدى إلى وقوع تل قالينج آغا وسط الأحياء الجديدة من المدينة مما حدا بمالكي الأرض التي يقوم وسطها هذا التل إلى مطالبة المديرية العامة للآثار السماح لهم باستغلال أرضهم للأغراض العمرانية بعد تقسيمها إلى وحدات سكنية وبيعها إلى الناس، وبحكم مواد قانون الآثار القديمة النافذ وحمايةً لتراث البلد التاريخي امتنعت مديرية الآثار عن الموافقة على تغيير مزيّة الموقع الأثري بالبناء عليه أو بإزالة قسم مما يبطن من بقايا عمرانية ولقى أثرية قبل إجراء الدراسات اللازمة لمعرفة أزمنة ونوعية تلك الآثار، ولكنّ حرص مديرية الآثار العامة على مصلحة ذوي العلاقة من المواطنين واحتراماً منها لحقّ الملكية الخاصة فقد أجازت لهم التصرّف بكل ما يحيط بالمستوطن الأثري من أراضي خالية من البقايا التاريخية ريثما يتم لها إنجاز دراساتها وتحرياتها بالكشف عن أكبر جزء من الموقع، وهذا عمل علمي بطيء يتطلب الدقة والحرص الشديدين، وقد يستغرق عدة مواسم من التنقيب الأثري المنتظم، وللبدء بتلك الدراسات فقد أُوفد المؤلف في أواخر سنة 1965 للكشف على الموقع والتعرّف ولو بصورة أولية على طبيعته الأثرية وأدواره التاريخية. وبعد فحص التل وسفوحه ودراسة الكسرات الفخارية الكثيرة المنتشرة عليه مع غيرها من الملتقطات السطحية تمكنا من التوصّل إلى أن فالينج آغا سكن في أزمان متعاقبة خلال الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد في الفترات المعروفة بأدوار حلف والعبيد والوركاء( *) من عصور ما قبل التاريخ وربما هجر المكان نهائياً في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد حيث لم نجد أية آثار باقية لأدوار سكنى تعقب هذا الزمن الأخير بين الفخاريات والملتقطات السطحية الظاهرة، كما تراءى لنا في حينه بأن التراكمات الأثرية لدور الوركاء قد تكون سميكة في هذا الموقع بالنظر لكثافة البقايا واللقى السطحية المميزة لهذا الدور وانتشارها الواسع وخاصة على قمته وأطرافه الغربية
(*)-سمّي كل دور من هذه الأدوار بالاسم الحديث للموقع الذي كُشف فيه عن آثاره وفخارياته لأول مرة. فدور الوركاء الذي تحدد زمانه بين 3500-3100 قبل الميلاد تقريباً اكتشفت بقاياه المميزة للمرة الأولى في الطبقات السفلى من مدينة الوركاء السومرية الشهيرة قرب مركز محافظة السماوة. ودور العبيد الذي يبدأ زمانه في حدود 4300 سنة قبل الميلاد وربما قبل ذلك بقليل وينتهي في بداية عصر الوركاء في حدود 3600 ق. م. عرفت آثاره المميزة أولاً في تل العبيد القريب من أور في محافظة الناصرية، وأما دور حلف (في حدود 4900-4300 ق. م. تقريباً) فقد عثر على بقاياه المميزة لأول مرة في تل حلف (موقع مدينة كوزانا القديمة) في أعالي الخابور شمال سوريا. لقد وضعت البحوث والدراسات المختصة الكثيرة عن هذه الأدوار الحضارية ومميزاتها وأزمانها، ولعل خير مرجع يلخّص ويبحث في هذه الأدوار باللغة العربية هو مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة (الجزء الأول) للأستاذ المرحوم طه باقر، ونود أن نذكر باختصار أن الدراسات الحديثة قد أثبتت بأن بلاد الرافدين بشمالها وجنوبها كانت مهداً لمولد وتطوّر معظم العناصر الحضارية المكونة لهذه الأدوار وغيرها من الأدوار التي سبقتها أو أعقبتها في فترتي العصر الحجري الحديث والحجري المعدني، ومنها انتشرت إلى البقاع المجاورة في الشرق الأوسط، كما أن الأهمية الخاصة التي يتميّز بها دور الوركاء دون سواه من الأدوار الحضارية في هذه الحقبة من تاريخ العراق القديم أنه فيه قد وضعت الأسس والمقومات الأولى للحضارة السومرية العظيمة التي ازدهرت وأينعت بعد ذلك في وسط وجنوب العراق في بداية الألف الثالث قبل الميلاد ففي هذا الدور (الوركاء) اتسعت الزراعة كثيراً وتوسعت القرى حتى أصبحت مدناً عامرة بسكانها وبمناطقها السكنية وأبنيتها الدينية الفخمة التي أخذ بعضها يرفع على مصاطب مدرجة من اللبن الصلد هي بداية الزقورات الشاهقة التي اشتهرت بها حضارات العراق الأولى قبل غيرها بآلاف السنين وفي هذا الدور نضج واكتمل فن النحت فأنتجت نماذج رائعة من أوائل قطع النحت في العالم، كما بدأ الفنان بالحفر على الأختام الأسطوانية بأشكال عديدة وعلى أنواع من الأحجار الثمينة التي جلبت خاماتها من مناطق مناجمها من أماكن بعيدة كأفغانستان وإيران وسواحل الخليج العربي، وتطور الدولاب الفخاري وبلغ مرحلته النهائية. ومن منجزات هذا الدور التوصل إلى استنباط طريقة للكتابة الصورية التي وضعت حداً فاصلاً للفترة المعروفة بعصور ما قبل التاريخ في العراق حيث بدأ التدوين، فدخلت البلاد مرحلة العصور التاريخية نحو سنة 3000 ق. م.
ولزيادة التأكّد من كل هذا فقد قمنا في أوائل شباط من عام 1966 بتنقيبات استكشافية دامت ثمانية أيام بمساعدة عدد من العمال المحليين أعارتنا إياهم مشكورة محافظة أربيل ورئاسة بلديتها وكان من نتائج هذه التحريات القصيرة الأمد الكشف عن ست طبقات متعاقبة من دور الوركاء، في مقطع بمقياس 6×2.5 م وعمق2.22 م على قمة المستوطن وعلى خمس طبقات أثرية مماثلة في النهاية الغربية من الموقع، جوار الشارع العام الذاهب إلى كركوك في حفرة أخرى (بطول1.80 م وعرض 1.24 م وعمق2.15 م) تستقر طبقتها الخامسة (أي السفلى) على الأرض البكر مباشرة والتي تنخفض عن مستوى الطريق المجاور بمترين(**). وهذه دلالة قاطعة على أن سهل أربيل قد ارتفع بفعل عوامل طبيعية مختلفة بما يزيد على المترين عما كان عليه في حدود 5000 سنة قبل الميلاد حين ابتدأت السكنى في قالينج آغا وربما في قلعة أربيل نفسها (إن لم تكن السكنى قد بدأت فيها أقدم من ذلك في بداية دور تأسيس القرى وبدء الزراعة في حدود 7000 ق. م.)، وإن معظم ما أعطتنا حفرتا الجس في سنة 1966 من لقى أثرية كان الفخار المميز لدور الوركاء بأنواعه الثلاثة المعروفة وهي الأحمر والرمادي والنوع الاعتيادي البسيط وهو الغالب
وللاستزادة من معلومات أخرى من ماضي فالينج آغا والتعرّف على أحوال وحياة من تعاقب عليه من الناس، رأينا ضرورة الكشف عن مساحة أكبر من تراكماته الأثرية فكانت التقنبيات الاستكشافية التي دامت هذه المرة طيلة شهر آذار من عام 1967(**).
نشرنا دراسة تفصيلية لهذه التنقيبات الاستشكافية الأولى في قالينج في القسم الأجنبي من مجلة سومر، المجلد 22 لسنة 1966 ص 77-78 - (*)
( **)- نشرنا نتائج الموسم الثاني من التنقيبات التجربية بالاشتراك مع الزميل شاه محمد علي الصيواني الذي شاركنا في عمليات الحفر في ذلك الموسم. القسم الأجنبي من مجلة سومر المجلد23 لسنة 1967 ص 69-75.
فقد كان من حصيلة هذه العمليات الاستكشافية الثانية التغلغل في الحفرة الدراسية في قمة المستوطن إلى الطبقة الثانية عشرة على عمق خمسة أمتار ثم اقتطاع خندق كبير بطول 92 متراً وعرض ستة أمتار يربط بين قمة الموقع، حيث حفرة الجس العميقة ونهايته الغربية، وكشف فيه عن العديد من الطبقات البنائية العائدة إلى دور الوركاء نفسه، وبالإضافة إلى كميات وفيرة من فخار عصر الوركاء المعهود فقد جاءتنا أعداد كبيرة من الحلي والخرز كانت تزين أعناق وصدور وربما ملابس الموتى(*) عند دفنهم في أسفل أرضيات بيوت ذويهم في قبور خاصة. وكانوا يدفنون الأطفال في جرار كروية الشكل ذات فواهات واسعة يوضع فيها الطفل المتوفي بهيئة تشبه إلى حد كبير وضعية الجنين في الرحم. ومن أبرز الآثار التي جاءتنا من تلك القبور هي قلادة ذهبية وجدت في قبر امرأة تتألف من عدد كبير من خرز مختلفة الحجوم والأشكال (تشاهد صورتها في أول المجلد الثاني والعشرين من سومر) تضم بالإضافة إلى ما يزيد على خمسين قطع ذهبية قطعَ خرز أخرى من أحجار ثمينة كاللازور (Lapis Lazuli) والعقيق (Garnelian)، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن اكتشاف حليّ ذهبية في موقع فالينج يعتبر سابقة آثارية. فهذه واحدة من أقدم الحليّ الذهبية المكتشفة لحد الآن(**)، كما أنها من الأدلة الأولى على استفادة الإنسان من ذلك المعدن الثمين لأغراض الزينة بعد طرقه وصياغته، ومع أن الذهب يعتبر من المعادن الأولى التي اجتذبت أنظار الإنسان في عصور ما قبل التاريخ إلا أن استغلاله لأغراضه الخاصة لم تتم إلا بعد فترة طويلة حين توصّل إلى معرفة المبادئ الأولى للتعدين (بالطرق) ومارسها بصورة عملية في مواد أخرى أولها النحاس (ربما كان ذلك في أواسط الألف السادس قبل الميلاد). ولما كان الذهب موجوداً ولو بصورة ضئيلة جداً في جميع الصخور والتكوينات الحصوية والغرينية، كما هو موجود في خامات بعض المعادن كالنحاس والرصاص، فربما حصل عليه سكان المواقع القديمة في شمالي العراق (تبة كوره وقالنيج آغا وربما عشرات غيرها من المواقع القديمة) محلياً من غسل المواد الصخرية والغرينية، أما الحجارة الأخرى كاللازورد والعقيق والشذر فإنهم حصلوا عليها من مناطق مناجمها في أفغانستان وإيران وسواحل الخليج العربي من طريق التجارة.
(*) - إن أعداداً كبيرة من الخرز تتكون من الصدف أو العظم أو أحجار ثمينة كاللازورد والعقيق وجدت حول صدر الهيكل العظمي أو قرب الركبتين والقدمين تدل على أنها كانت مطرزة على الثياب لتزيينها تماماً كما تفعل النساء الآن في بعض ثيابهن الخاصة بالمناسبات، ونودّ أن نشير بهذا الصدد إلى أننا عثرنا على بعض تماثيل طينية صغيرة في تل الصوان (من أوائل الألف السادس. ق. م) كانت تزيّن ركبها وأقدامها وكذلك يلف حول وسطها حبيبات من الطين أيضاً محاكاةً لقلائد الخرز التي كانت تطرّز في الثياب.
(**) عثر في عدد من القبور العائد إلى عصر الوركاء في موقع تبة كوره قرب الموصل على عدد من الخرز والحليّ الذهبية في الثلاثينات من القرن العشرين من قِبل البعثة الأمريكية التابعة لجامعة بنسلفانيا
وبعد هذين الموسمين القصيرين من التنقيبات الاستكشافية التي أوضحت لنا جوانب كثيرة من ماضي تل قالينج آغا (ولو بصورة محدودة) والمستوى الحضاري الذي بلغه سكانه من العراقيين القدامى قبل أكثر من خمسة آلاف سنة بدأنا نخطط لحفريات شاملة تكشف لنا عن رقعة واسعة من التل الأثري وخاصة في طرفه الغربي حيث بقايا عصر الوركاء الغني بقبوره ومنجزاته العمرانية وكان هدفنا من ذلك:
- استكمال البحث في المقبرة الغنية بآثارها الثمينة والتي ظهرت بوادرها في موسم التقنيب لعام 1967، وذلك خشية العبث بمحتوياتها من طريق نقل الاتربة أو التجاوز بالحفر غير المشروع.
- الكشف عن مساحة واسعة من كل طبقة من طبقات السكنى لنتمكن من التعرف بصورة واضحة على تخطيط متسوطناتهم، بما فيها من دور سكنية وأبنية دينية ومرافق عامة ودروب وما شابه في هذه الفترة المهمة (دور الوركاء) من تاريخ العراق القديم (لا بل الشرق الأدنى القديم كله) حيث أخذت القرى بالاتساع لتصبح مدناً عامرة مكتظة بسكانها بفضل الرخاء الاقتصادي واتساع الزراعة والتخصص في الحِرف بمختلف أنواعها.
- التحقق من احتمال الكشف في الطبقات العليا من هذا الموقع عن نماذج من الكتابة الصورية الأولى التي تضاهي في القدم ما كشف منها في وسط وجنوب العراق (في الربع الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد) في مدن أثرية شهيرة كالوركاء وفارة والعقير وجمدة نصر(*). إن الكشف عن بعض فخاريات ولقى أثرية من الفترة الزمنية التي تعرف بعصر نينوي الطبقة الخامسة (**) في الطبقات المتأخرة (العليا) من تل قالينج آغا قد حدا بنا إلى التفكير باحتمال الوقوف هنا على ألواح من تلك الكتابات الأولى، وإن كان الحظ لم يسعفنا في هذا الموسم بالعثور على دليل بهذا الشأن فلعلنا سنصل إليه في مكان آخر من قالينج أغا قد يتناوله معول التنقيب في المواسم القادمة أو ربما سيكشف عنه في موقع آخر من مواقع العراق الشمالية(***).
(*) - لعل ذلك يلقي بعض الضوء على المشكلة القائمة عن أصل السومرين وحضارتهم ولغتهم، ولو أن المؤلف يؤمن بأن أصل ومقومات الحضارة السومرية وعناصرها المختلفة في العمارة والفخار والنحت والفنون الأخرى قد ولدت وتطوّرت في بلاد الرافدين كما يؤمن أيضاً بأن لا صحة لما يدّعيه بعض المستغلين في هذه الدراسات من علماء آثار غربيين من أن السومرين وحضارتهم ولغتهم غرباء عن هذه البلاد، ويجعلون منبتها أحياناً مراكز في أواسط آسيا وأحياناً يرجعون أصول بعض عناصرها الفنية والتقنية إلى تركيا أو إيران.
(**) تعقب هذه الفترة مباشرة دور الوركاء في شمال العراق ويعاصرها في الجنوب دور جمد نصر (وربما بداية دور فجر السلالات السومرية) وهي الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الكتابة لأول مرة في وسط وجنوب العراق (حوالي 3200 ق. م) وقد سميت هكذا (أي عصر نينوى الطبقة الخامسة) نسبة إلى العثور لأول مرة على فخارياتها المميزة بأنواعها الملونة والمبرقشة بحزوز غائرة والأخرى البسيطة الخالية من النقوش لأول مرة في الطبقة الخامسة من حفرة الجس العميقة في تل قوينجق في نينوى من قبل البروفسور سنة 1931-1922.
(***) قد نكون متفائلين بعض الشيء في هذا الصدد وقد يكون سكان مواقع شمال بلاد الرافدين لم يتوصّلوا إلى الكتابة الصورية الأولى وقد يكون الجنوب لأسباب حضارية معينة والحاجة الملحة للتدوين لتصريف شؤون المعابد وما شابه استنبط طريقة مبسطة للكتابة بعد محاولات وتجارب عدة، على كل حال سيكون الجواب القاطع بهذا الشأن في معول المنقب.
تنقيبات الموسم الثالث في قالينج آغا (أربيل 1968)
ولو أن الهدف الأخير لم يتحقق إلا أن موسم التنقيب الثالث والذي دام نحو ثلاثة أشهر من صيف 1968(3)، كان مثمراً للغاية، إذ بالإضافة إلى ما أظهرته لنا الطبقات الثلاث التي تم التنقيب فيها من بقايا معمارية دينية وسكنية مهمة فقد كشف بين طياتها وتحت أسفل أرضيات منازلها عن عدد من قبور الأطفال يربو على الخمسين قبراً يضم معظمها قلائد من خرز من الصدف والعظم والأحجار الثمينة مع بعض الحلي الذهبية القليلة، منها مكحلة صغيرة مدببة من الزجاج البركاني الأبيض الشفاف يلتف حول وسطها حزام من الذهب دلالة على مكانة صاحبتها المرموقة، كما عثر في هذه الطبقات الثلاثة على العديد من التماثيل الصغيرة من الطين بهيئة نساء في الأغلب بوضعية الجلوس تظهر عليهن علامات الحمل رمز الحياة والخصب والإكثار التي ترمز للأم الإلهة. بعض هذه الدمى الطينية كانت تبدو عليها مسحة من الرمزية والتحوير عن الطبيعة، حيث قد شُكّلت أجسام بعضها بهيئة أشكال أسطوانية أو مخروطية لا أثر للأيدي أو الأرجل عليها، ويرمز للرأس عادة بتدبب تخرج من أحد جانبيه ندبة أو أكثر تعطي للوجه بعض تفاصيله. كما كشف عن عشرات من الصور الحيوانية المجسمة من الطين أيضاً، بينها الحصان والكلب والكبش والعجل وحتى النمر. وللدلالة على اهتمام سكان قالينج اغا بحياكة الملابس من الصوف أو شعر الماعز المغزول فقد خلّفوا لنا وراءهم المئات من أقراص المغازل من الطين بأشكال مخروطية أو قرصية وثقالات من الطين أو الحجر أو الحصى لجومة الحياكة اليدوية البسيطة، وكانت بعض ملابس النساء والأطفال تطرز بخيوط عديدة من الخرز الصدف أو الأحجار الثمينة. والتطريز عادة كان بتثبيت هذه المواد على حافات الثوب أو في وسطه أو حافات أكمامه (انظر أيضاً الهامش رقم 17) ومن اللقى الأثرية التي لها تفسير عقائدي رؤوس من الطين لعجول بقرنين صغيرين وجد بعضها مثبتاً في أرضيات غرف بعض الأبنية الدينية. كما كُشف عن عدد من الأجسام الطينية وهي ذات شكل دائري تقريباً تنتهي من الأعلى بقرنين. وقد يدلّ هذا على تقديس سكان تل قاليج آغا في زمن الوركاء للعجول أو الثيران بصورة خاصة، بحيث كانت رؤوسها أو أشكال تلك الرؤوس المحورة عن الطبيعة أحياناً تنصبّ في غرف خاصة في منازلهم أو دور عبادتهم (ونودّ أن نذكر بهذا الشأن أن سكان موقع جتل هيوك في غربي تركيا، وخاصة سكان الطبقتين السادسة والسابعة، قد اتخذوا لرؤوس ثيرانهم المقدسة بقرونها الطويلة المقوسة أحياناً معابد خاصة أسّسوها لهذا الغرض في أواخر الألف السابع قبل الميلاد وصبغوا جدرانها ونقشوها أحيانا ًبصور آدمية وحيوانية). إن تقديس الثيران وإظهار رؤوسها بقرونها البارزة كان من أهم الطرز التي تزين جدران الأواني الفخارية لعصر حلف (أوائل الألف الخامس قبل الميلاد) ويمكن للباحث أن يتتبع تطور هذا الطراز على بعض تلك الفخاريات من شكله الحقيقي الذي يحاكي الطبيعة حتى أصبح رمزياً محضاً بعد مروره بعدة مراحل بين هذا وذاك(**)
(*)- كانت الهيئة المسؤولة عن تنقيبات الموسم الثالث في قالينج آغا تتألف من كاتب المقال رئيساً والسادة شاه محمد علي الصيواني مساعداً لرئيس الهيئة وإسماعيل حجارة مسؤولاً عن ترسيم وتسجيل الآثار وتحسين عبد الوهاب وإحسان حسين للمشاركة في الأعمال الحقلية وخضر عبد الله لمراقبة العمل والعمال ومحمد الأحمد الحميضة للمساعدة في أعمال الهندسة ورسم الأبنية المكتشفة.
(**)- يمكن مشاهدة هذا التطوّر على بعض فخاريات عصر حلف في إحدى خزانات المتحف العراقي في بغداد (قاعة عصور ما قبل التاريخ).
.
وبالإضافة إلى رؤوس العجول الطينية تلك فقد أعطتنا تنقيبات صيف عام 1968 في هذا الموقع بعض الأشكال الفخارية الغريبة التي ترمز لأجسام بشرية محورة عن الطبيعة في أعلاها عادة تجويفان كبيران يرمزان إلى موضع العيون، كما أن أسافلها بهيئة قرصية صلدة أو مجوفة ولا أثر للأرجل أو الأيدي على هذه الأشكال. وتعرف هذه الأجسام عند الباحثين من الآثاريين عادة بآلهة العيون Eye-Goddesses or Eye-Symbols or Eye –ldol، وكان تقديس هذا النوع من الآلهة من الطين (وأحياناً أخرى من الحجارة أو الحصى) منتشراً في بقاع عديدة في شمال وجنوب العراق وشمال سوريا أيضاً، فقد وجدت نماذج عدة من آلهة العيون هذه في موقع تبة كوره قرب الموصل وكري ريش قرب سنجار وفي مدينة الوركاء نفسها وأور ولكش، كما وجد منها بالآلاف في تل براك على الخابور(شمال سوريا) وأظهرت حفريات ماري (تل الحريري) العديد منها ( * )، وفي براك كان قد أُفرد لهذا المعبود مزار خاص(Eye-Temple) ، وقد أُقيمت دكة عالية في أبرز مكان منه، ورفع عليها شكل كبير من الحجر لإله العيون هذا، كما زُيّن الجدار وراءه بإفريز محلّى بالذهب ومطعم بالأحجار الملونة.
(*) انظر بهذا الصدد:
O.G.S Crawford " the Eye Goddess' London 1957
حيث يدرس المؤلف في كتابه هذا آلهة العيون؛ نشأتها في الشرق الأوسط القديم وانتشرها غرباً بشكل أو بآخر إلى اليونان وجنوب إيطاليا وجزيرة صقلية وإسبانيا وغرب فرنسا وإنجلترا وإيرلندا وشمال أفريقيا وجزر الكناري.
Comments powered by CComment