
نسخة مجلة سومر ( الموسم الرابع - هنا )
نسخة مجلة سومر ( الموسم الخامس - هنا )
مقدمة :
يقع تل الصوان (*) ، قرب النصب المعروف بالقائم على الضفة الشرقية لنهر دجلة، جنوب مدينة سامراء على مسافة أحد عشر كيلومتراً، وإن البقايا الأثرية للموقع تؤلف تلاً بيضوي الشكل تقريباً طوله من الشمال إلى الجنوب 230 متراً وعرضه من الشرق إلى الغرب 110 أمتار ولا يزيد ارتفاعه على ثلاثة أمتار ونصف عند أعلى بقعة على سطحه.
( *) للمزيد عن الموقع انظر "سومر" المجلدات 19-22 فيما يتعلق بموجز تنقيبات المواسم الثلاثة الأولى في هذا الموقع، وكذلك القسم الأجنبي من المجلدين 21 و22 بصدد النتائج التفصيلية للموسمين الأول والثالث ).
إن أول من التفت إلى الطبيعة الأثرية لتل الصوان هو عالم الآثار الألماني إرنست هرتسفيلد الذي كان ينقب في أطلال سامراء الإسلامية في مطلع هذا القرن (1912-1914 م) ثم قامت المديرية العامة للآثار في عام 1949 بالإعلان عن أثريته وميّزت نوعية الملتقطات المنتشرة على سطحه وأزمانها الحضارية. وفي أوائل عام 1964 قررت المديرية المذكورة إجراء تنقيبات علمية شاملة فيه وكان وراء ذلك القرار أمران: أولهما وقوع تل الصوان في وسط العراق والذي جعل التفكير يتجه إلى احتمال الكشف في طياته عن دلائل أثرية تلقي الضوء على نوع من الارتباط الحضاري بين شمال وجنوب بلاد الرافدين في النصف الثاني من الألف السادس قبل الميلاد، حين بدأ العراقي القديم ينحدر إلى منطقة السهول الغرينية في وسط وجنوبي وادي الرافدين لتأسيس أولى القرى الزراعية هناك.
ثانياً: إن كل ما كنا نعرفه عن المرحلة المسماة بطور سامراء لما قبل التاريخ (في أواخر الألف السادس قبل الميلاد) هي فخارياتها المميزة التي كشف عنها هرتسفيلد الأول مرة في قبور من هذه الفترة في مكان ما أسفل قصر الخليفة في سامراء. وقد كنا نجهل الشيء الكثير عن عناصر ومقومات أخرى لتلك المرحلة الحضارية، وكان أملنا كبيراً بالعثور هنا على قرية من هذا الطور بأبنيتها وآثارها الأخرى توضح لنا جوانب كثيرة ومهمة من تاريخ العراق القديم في النصف الثاني من العصر الحجري الحديث، وبداية ما يسمى بالعصر الحجري - المعدني. وكان معظم ما توقعناه صحيحاً. فبالإضافة إلى ما أظهرته نتائج تنقيبات الموسم الأول (17 شباط-20 أيار 1964) والمواسم الأربعة الآتية (أنجزنا تنقيبات الموسم الخامس بين المدة 25 تشرين الثاني 1967 لغاية 25 كانون الثاني 1968) من نتائج حضارية ألقت الضوء على جوانب كثيرة من هذين السؤالين، فإنها كشفت ولأول مرة عن لقى وبقايا أثرية تفوق كثيراً ما كان يدور بمخيلتنا ومخيلة المشتغلين بهذا الحقل في الخارج.(**)
(**) - كان كاتب المقال مسؤولاً عن تنقيبات الموسم الأول، وقد نشرت النتائج التفصيلية لذلك الموسم في القسم الأجنبي من "سومر" المجلد 21 لسنة 1965، ونظراً للأهمية العلمية البالغة التي أظهرها نتائج تنقيبات الموسمين الأول والثاني، ورغبة في الكشف عن الموقع بأكمله فقد ارتأت المديرية العامة للآثار بدء عمليات الموسم الثالث بأسلوب الحفر الأفقي الشامل ابتداء من قمة المستوطن الوسطي (ب) حيث كشفنا سابقاً عن جزء من طبقته العليا (الخاصة) وأنيطت رئاسة الهيئة المكلفة بالتنقيب بالسيد غانم وحيدة الذي نشر نتائج هذا الموسم (أي الثالث) في القسم الأجنبي من "سومر" المجلد 22 لسنة 1967. ويمكن إيجاز نتائج الموسم الثالث بما يلي:
(أ) إكمال استظهار جميع المرافق البنائية المتبقية للطبقة الخامسة (العليا) من المستوطن الوسطي (ب).
(ب) البدء بالكشف عن أبنية الطبقة التي تليها من أسفل (الرابعة) والتي كنا قد استظهرنا أجزاءً منها أثناء الموسم الأول في ربيع 1964.)
1) - التنقيبات في تل الصوان ( الموسم الرابع 1967):
بدأت تنقيبات الموسم الرابع في تل الصون في الأول من آذار 1967 واستمرت لغاية الثامن من حزيران من نفس العام. وكانت بعثة التنقيب تتألف برئاسة كاتب هذا المقال وعضوية السادة غانم وحيدة، عواد الكسار، وياسين رشيد، وكان السيد حسين رسول مسؤولاً عن حسابات البعثة كما كان السيد عيسى الطعمة مسوؤلاً كالعادة عن إدارة العمال ومراقبة العمل والسيد محمد الأحمد الحميضة للمساعدة في الأعمال الهندسية كما التحق بالبعثة في الشهر الأخير من الموسم السيد رمزي نعوم للقيام بتحبير المخططات ورسوم الآثار والفخار. وقام السيد انتران إيفان بتصوير الحفريات والآثار.
لقد تركزت أعمال الموسم الرابع بإكمال استظهار جميع المرافق البنائية للطبقة الرابعة ضمن الخندق الدفاعي في المستوطن الوسطي (ب) حيث أكمل ذلك في منتصف شهر نيسان (1967) ثم بُدئ بالحفر في الطبقة التي تليها من أسفل (الثالثة) وفي نفس المستوطن أيضاً. ومن الجدير بالإشارة إليه في هذا الصدد أن أجزاءً بنائية من هذه الطبقة الأخيرة، (أي الثالثة) وخاصة في طرفها الجنوبي، كانت قد استظهرت سابقاً أثناء تنقيبات الموسم الأول، كما كشف عن بعض أقسامها في الموسم الثاني أيضاً.
لقد تمّ إكمال استظهار الجدار الضخم الذي يلف حول الخندق الدفاعي من الداخل محيطاً بمعظم أبنية الطبقة الثالثة ضمن المستوطن الوسطي (ب) وخاصة قسمه الشرقي، إن هذا الجدار (أو السور) كان على ما يظهر قد شيد في بداية زمن الطبقة الثالثة في دورها الأسفل (Level III B). كما أن البناء رقم 12 قد شيد على امتداد ضلعه الشمالي في آواخر زمن الطبقة الثالثة أو ربما في بداية زمن الطبقة الرابعة التي تعلوها. لقد كشف في هذا الموسم (الرابع) عن ما يقرب من ثمانية أبنية، سبعة منها ذات تخطيط بنائي موحد يشبه إلى حد كبير الحرف اللاتيني(T) ، كما هي الحال في البناء رقم 12 (المذكور أعلاه) والذي تم اكتشافه خلال حفريات الموسم الثاني وأطلق عليه اسم "معبد الطبقة الرابعة".
وتتخلل هذه الأبنية ساحات واسعة ودروب بعضها مرصوف بالحصى. وفي إحدى الساحات تشاهد مجموعة من التنانير ملاصقة للوجه الداخلي للضلع الجنوبية من سور القرية في هذه الطبقة، وإن بقايا الجدار الضخم المجاور للبناء رقم 1 من الغرب ربما تمثّل الضلع الغربي لسور قرية الطبقة الثالثة. ولما كانت معظم أبنية الطبقة الثالثة (وربما جمعيها) تحتوي على مستويين (أرضيتين)، العلوي منهما عادة من الجص، فقد تأكد لدينا بصورة قاطعة أن هذه الأبنية (لا بل الطبقة نفسها) قد مرت بدورين سكنيين على الأقل نسميها: (1) دور التأسيس الأول أي الأسفل (أ) و(2) دور التجديد أو إعادة السكنى وهو الدور العلوي (ب). كما ظهر لنا بصورة لا تقبل الشك أن معظم مشتملات الدور العلوي (ب) بغرفها الصغيرة قد اتخذت مخازن للغلال، فلقد جاءتنا من باطن أغلب هذه المخازن بقايا من تلك الغلال وعظام الحيوانات التي استفادوا من لحومها للطعام وكذلك الآلات والأدوات الحجرية التي استعملت لتهيئة الطعام وللحراثة والحصاد. هذا وإن هنالك احتمالاً بكون بعض هذه المخازن ومشتملات الدور العلوي من الطبقة الثالثة قد بقي مستعملاً حتى أوائل زمن الطبقة الرابعة التي تعلوها.
القبور:
كانت القبور المكتشفة خلال الموسم الرابع في تل الصوان على نوعين؛ الأولى التي يرجع زمنها إلى دور سامراء، لما قبل التاريخ، دفن أصحابها على ما يظهر من قبل سكان الطبقة الثالثة نفسها، كما أن بينها ما هو مدفون من الطبقتين العلوتين (الرابعة والخامسة). أما المجموعة الثانية من القبور فترجع بزمنها إلى العصر البابلي أو الكاشي (نحو أواسط الثاني قبل الميلاد) حين اتخذ سطح الموقع مقبرة بعد أن هجر المكان بزمان طويل.
يسرنا في هذا المناسبة أن نشير إلى أن صديقنا طبيب الأسنان الدكتور جلال جرجيس قد قام بزيارة للموقع أثناء التنقيب بصحبة زوجته طبيبة الأسنان فائزة مقادسي وفحصا سوية عدداً من أسنان إنسان عصر سامراء والعصر البابلي القديم (أو الكاشي) وخلصا إلى أن أسنان سكان تل الصوان في عصر سامراء (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) كانت أكثر تآكلاً وتسوساً وتساقطاً من أسنان الدور الأخير (أي العصر البابلي القديم)، وهذا مرجعه كما يعتقدان إلى نوع الغذاء السائد حينئذٍ.
المواد الغذائية الرئيسية:
إن من يعمل في حقل التنقيب العلمي في الوقت الحاضر لا يكتفي بالبحث عن الآثار الجميلة البارزة التي هي مطلب أي متحف من متاحف العالم، بل هو يسعى جهده إلى التوصل بشتى الوسائل المبتكرة إلى الكشف عن بقايا مادية تلقي الضوء على جوانب عدة من حياة سكان المستوطن الذي يعمل فيه. إن الجانب الاقتصادي أخذ يشغل أذهان علماء الآثار في الآونة الأخيرة وخاصة من يبحث منهم في فترات ما قبل التاريخ والمراحل التي أعقبت تدجين الحيوان ومعرفة الزراعة للتعرف على نمط الحياة الاقتصادية وأنواع المواد الغذائية الأولى التي عرفها واستخدمها الإنسان بعد أن استقر في قرى ثابتة قرب الينابيع والأنهار أو في المناطق التي تتوفر فيها الأمطار الكافية للزراعة، وهذا ما سعينا إليه دوماً في مختلف مواسم التنقيب في تل الصوان وقد كوفئنا على بحثنا بالعثور على نماذج من الغلال والبقايا العظيمة للحيوانات التي اقتات على لحومها سكان هذا الموقع في مختلف أدواره. ففي الموسم الأول (ربيع1964) عثرنا على نماذج من الحبوب المتفحمة في جهة من الضلع الشمالي من الخندق الدفاعي تفرغ لدراستها أحد مشاهير المختصين بالنباتات القديمة، هو البروفيسور هانس هيلباك من المتحف الوطني في كوينهاكن بالدنمارك، والذي أفادنا بأن من جملة المحاصيل الحقلية لأهالي تل الصوان هي الحنطة والشعير، وإن سكان الموقع كانوا يعتمدون أحياناً على السقي في زراعة هذين النوعين من الغلال، كما هي الحالة الآن في نفس المنطقة، لقلة الأمطار في وسط العراق في ذلك الزمن كما هي عليه الآن.
إن البحث الدقيق في التربية والركام الناجم عن حفريات مختلف أجزاء البقايا النباتية ومخازن الطبقة الثالثة خلال عمليات الموسم الرابع قد زوَّدنا بمجاميع كبيرة من بقايا عظام الحيوانات الأليفة والبرية، والتي اصطادها الإنسان في هذا الموقع، واقتات على لحومها واستفاد من بقاياها الأخرى، وبنتيجة تفرّغ المختصين بعظام الحيوانات على دراسة وفحص هذه البقايا العظيمة ظهر بأن الخراف والماعز والغزلان كانت عماد الثروة الحيوانية لأهل هذه المنطقة من العراق في الألف السادس قبل الميلاد. كما أن السمك كان الغذاء الرئيسي لسكان تل الصوان في عهوده جميعها.
2 ) - التنقيب في تل الصوان الموسم الخامس ( 1967-1968)
1. ابتدأت عمليات تنقيب الموسم الخامس في تل الصوان في الخامس والعشرين من تشرين الثاني1967 واستمرت لغاية الخامس والعشرين من كانون الثاني 1968 وكانت البعثة المكلفة بالعمل برئاستنا وعضوية كل من السادة الآثاريين شاه محمد علي الصيواني، وغانم وحيدة ووليد ياسين، وقد صور الحفريات والأبنية المكتشفة كالعادة السيد انتران إيفان رئيس المصورين في مديرية الآثار العامة كما قام بمهام مراقبة العمل والعمال السيد عيسى الطعمة وساعد في أعمال الهندسة والترسيم المرحوم محمد الأحمد الحميضة الذي كانت وفاته المفاجئة خلال عمليات الموسم السادس خسارة لهذه المؤسسة العلمية ومبعث أسى وحزن عميقين لجميع الذين عرفوه وزاملوه طيلة سنين طويلة.
كان الهدف الرئيس من تنقيبات الموسم الخامس هو إكمال استظهار بقية الأجزاء البنائية في الطبقة الثالثة بدرويها السفلي والعلوي (أ، ب) وبحدود الخندق الدفاعي والسور المحاذي له من الداخل وكذلك الكشف عما يبطنه القسم الشرقي من التل الوسطي (ب) والذي كانت معظم أقسامه العليا قد تعرضت لتخريبات واسعة من قبل المزراعين المجاروين في الأعوام الأخيرة. كانت تنقيبات الموسم السابق (الرابع) قد أُنجز بالإضافة إلى الكشف عن أغلب بقايا الطبقة الرابعة (الترقيم من الأسفل) استظهار ثماني وحدات بنائية (1) يتميز بعضها (الأبنية 2، 4، 8) بشكل موحد من الخارج يشبه بمظهره الخارجي( * ) الحرف اللاتيني (T) وقد ثبت لدينا في حينه بأن هذه الأبنية ذات الشكل الخارجي الموحد قد اشغلت على الأقل في فترتين زمنيتين متعاقبتين من حياة الطبقة الثالثة سميناهما بالفترة أ (Phase A) وترتيبها الأسفل في هذه الطبقة، وهي فترة التأسيس، تعقبها من الأعلى الفترة ب(Phase B) وفيها طليت أرضيات (وفي أغلب الأحيان جدران مشتملات هذه الأبنية بالجص بعد أن ارتفع بعضها بمعدل 80-120 سم) (بفعل الملء المتعمد بالنقض) مع بقاء نفس الجدران الأصلية للفترة أ أو أحياناً إضافة جدران جديدة ملاصقة للأولى (من الداخل عادة) طليت هي الأخرى بالجص أيضاً. وقد استخدم أغلب ما نتج من هذه التغيرات المعمارية في الفترة العليا كمخازن للغلال (Granaries) من قبل سكان الموقع في هذه الفترة، مع الاحتفاظ بالشكل المعماري الخارجي لهذه الواحدات البنائية كما كان سائداً في زمن التأسيس مع تغيير عدد وحجوم بعض غرف هذه الأبنية وذلك بتقيسم كل منها إلى غرفتين صغيرتين أو أكثر لاستيعاب أصناف متعددة من الغلال والمواد المراد خزنها لمواسم قادمة.
(*) - في الواقع إن ما استظهرته عمليات الموسم الرابع من هذه الأبنية كان في الغالب حدودها الخارجية بالإضافة إلى التنقيب في جميع مشتملات فترتها العليا (الدورب) والنزول أحيانا(وخاصة في الأبنية 5-7) إلى مستويات دور التاسيس (الفترة السفلى أ).
2. أظهر التنقيب في القسم الشرقي من التل الوسطي (ب) خلال عمليات الموسم الحالي (الخامس) بقايا أثرية وبنائية بارزة يعتبر بعضها (أي البقايا البنائية) مكملاً لأجراء الطبقة البنائية الثالثة التي كشفت عنها في مواسم سابقة، فالبناية الواسعة (أعطيت الرقم 13) الكائنة قرب الزاوية الشمالية من هذا المستوطن لها نفس المظهر المعماري كغالبية أبنية الطبقة الثالثة وقد عايشت فترتي هذه الطبقة أيضاً، تتميز فترة التأسيس في هذه البناية بغرفها الواسعة والمتعددة وقد تغيّر معظم ذلك في الدور العلوي حين تحولت غرف البناية إلى مخازن صغيرة متعددة للغلال وحاجيات سكنتها الأخرى من فخاريات وسلال وأدوات وآلات من حجر وعظم وصوان وزجاج بركاني أسود( **).
(**) - بضعة كسر من فخاريات حلف الملونة وجدت في دفن غرفتي من هذه البناية.
لقد تيسر لنا في هذا الموسم تحديد أبعاد هذه البناية وشكلها الخارجي وكذلك التنقيب في مشتملات فترتها العليا، ومن الأبنية التي أكمل استظهار جميع مشتملاتها وتفريغها من النقض المتراكم في دوريها العلوي والسفلي بنايتين مجاروتين لبعضهما البعض بصورة خاصة على بقايا ومواد محروقة وبعض أدوات حجرية ولوازم منزلية وفخاريات لأغراض الطبخ والخزن، ومن المرجح أن تكون هذه البناية قد اتخذت في زمن الدور العلوي للطبقة الثالثة مخزناً لمواد ووقود التنانير والأفران الكائنة في الساحة المجاورة، أدّت تنقيبات الموسم الخامس إلى الكشف عن عدد من الساحات لا يقل عن ثلاث موزعة في أرجاء الطبقة الثالثة في القسم الشرقي من التل الوسطي استخدمت لأغراض عامة بصورة جماعية مشتركة من قبل سكان القرية، فالساحة الجنوبية الواسعة تحوي لصق ضلعها الجنوبي عدداً من التنانير يتراوح بين 8-10 استمر استخدامها حتى في زمن الطبقتين الرابعة والخامسة بعد عدة تجديدات ظاهرة من تراكم هذه التنانير فوق بعضها البعض.
من المكتشفات الأثرية المهمة في هذا الموسم أفران كبيرة من الطين عثر عليها في طرفي الساحة الوسطية الغربي والشرقي، وهناك احتمال كبير في أن تكون الكورة الأولى عند الطرف الغربي للساحة داخل غرفة مربعة تقريباً كما عثر على كورة ثانية أسفلها والكورة الثالثة وجدت عند الطرف الشرقي لهذه الساحة لصق غرفة مستطيلة وعلى بعد 7 م من مكان الكورتين السابقتين ويبلغ قطر كل من الكورتين الأولى والثانية 2 م أما قطر الثالثة فيقلّ عن ذلك بقليل. إن شكل الكور الثلاث دائري وهي مشيّدة بكتل من الطين وقد طليت أرضياتها وجوانبها بالطين أيضاً والباقي من ارتفاع جدرانها يتراوح بين 20-25 سم. وإن آثار الحريق الشديد ظاهرة للعيان في أرضيات وجدران هذه الكور وهذا ناتج بالطبع من تكرار عمليات الحرق ولسنين عديدة. من الملاحظ أن بناة الكورة الأولى (العليا) لم يتقيّدوا عند بناء فرنهم بنفس امتدادات الكورة الثانية (السفلى) بل انحرفوا بفرنهم العلوي إلى الغرب قليلاً، لم نتوصل إلى معرفة شكل ووضعية الأقسام العليا لهذه الكورة ولكن بقايا كتل الطين المتساقطة في باطنها وانحراف جدرانها التدريجي إلى الداخل كلما ارتفعت يدل على الأكثر بأن سقوفها كانت تُشكّل بما يشبه القبة. ولهذه الكور فتحات جانبية قريبة من القاع استخدمت لإدخال وإخراج الأواني وللوقود أيضاً.
ترجع هذه الكور في زمنها إلى عصر الطبقة الثالثة، وربما استمر استعمالها في زمن الطبقتين التاليتين (الرابعة والخامسة) لو صح اعتبار هذه الأفران كوراً لشيّ الفخار( *) كما ذهبنا إليه أعلاه نكون قد وفقنا إلى اكتشاف مهم يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً من أن فخاريات سامراء بكل أنواعها (من بينها الملونة طبعاً) هي صناعة محلية في تل الصوان وليست مستوردة. ثم إن غزارة هذا النوع من الفخار هنا تؤكد بأن موقع تل الصوان كان واحداً من المراكز المهمة والرئيسية لهذه الصناعة في القسم الوسطي من العراق ومنه كانت تتزوّد القرى والمستوطنات الأخرى في هذه المنطقة من بلاد الرافدين.
(*)-قد يفسرها البعض أفراناً أو مواقد كبيرة للطبخ، بأن توضع قدور الطبخ الفخارية في قاعها وتوقد النار أسفلها وحواليها (أي القدور) وهذا جائز أيضاً. ولكننا نرجّح الرأي الأول بكونها كوراً لحرق الفخار استناداً إلى الأدلة الورادة أعلاه.
لقد برزت ظاهرتان مهمتان نتيجة لتنقيبات الموسم الخامس أولهما تكرر ظهور سلالم من درج من جصّ لصق أغلب أبنية القسم الشرقي من التل الوسطي في زمن الدور العلوي للطبقة الثالثة(IIIB) إذ أضيفت هذه السلالم سوية مع أرضيات وقواطع الجصّ التي أدخلت إلى تلك الأبنية. كان الغرض من السلالم الجص في الغالب، الصعود من الخارج إلى أعالي أبنية الدور الثاني من الطبقة الثالثة حيث مخازن الغلال والحاجات الأخرى، أما الظاهرة الثانية فهي دروب مرصوفة بالحصى تنحدر عادة من أعالي المستوطن الوسطي منتهية في أطرافه الشرقية حيث السور والخندق الدفاعي. بالإمكان تتبع أحد هذه الدروب عند الممرّ الضيق الكائن بين الأبنية في أعالي المستوطن ومروره في الساحة الوسطية وحتى نهايتها الشرقية. لقد مرَّ هذا الدرب بثلاث مراحل زمنية أظهرتها حفرة سبر اقتطعت في منتصف سيره حيث يشاهد مقطع عرضي تظهر فيه ثلاث طبقات من الحصى المرصوف: الأسفل وقد رصف في زمن تأسيس الطبقة الثالثة (IIIA) وبعد أن ارتفع مستوى الأبنية المجاورة في زمن الدور العلوي من هذه الطبقة (IIIB) أعيد رصف الدرب بمستوى أعلى كما رصفت للمرة الثالثة عند نهاية زمن الطبقة الثالثة وبقيت صالحة للاستعمال طيلة زمن الطبقتين (الرابعة والخامسة) على الأكثر.
3. لم يظهر التنقيب في القسم الغربي من التل الوسطي أجزاءً بنائية تذكر، ما عدا بقايا قليلة من ثلاثة جدران تتخلّلها بعض أرضيات تعود جميعها لبناء غير واضح المعالم كُشف عنه في نهاية الطرف الغربي للطبقة الثالثة، تتألف اللقى الأثرية المكتشفة حول هذه الجدران من عدد من كسرات من فخار سامراء بأنواعها مع بضعة كسرات من النوع الملون بعد الحرق (من عصر سامراء أيضاً) وصنارة باب من الحصى وعدد من حجارة المسن.(Celts)
إن السبب الرئيس في زوال أغلب البقايا البنائية في هذا الجزء من التل الوسطي يرجع إلى كثرة القبور الحديثة العهد نسبياً وتكرار الدفن لسنين طويلة بالإضافة إلى ما سببه استيطان جديد أعقب عصر سامراء وأبنيته في هذه الناحية من الموقع فقد كشف في منتصف القسم الغربي من التل الوسطي عن بقايا أسس من الحصى بشكل بقعة دائرية واسعة قطرها نحو 12 م وبسمك 20 سم يخرج من طرفها الشرقي بقايا أسس من الحصى أيضاً مستطيلة الشكل. تنتشر فوق أسس الحصى هذه وحواليها أعداد من كسرات فخار حلف الملونة خاصة، كما كانت تشاهد بعض كسرات من هذا النوع من الفخار في مستويات أعلى فوق هذه البقعة في ذفن الطبقتين (الرابعة والخامسة) وتعود أسس الحصى هذه وكسرات فخار حلف إلى استيطان وسكنى أكيد لأصحاب هذه الحضارة. إن حملة حضارة حلف القادمين من الشمال قد حلوا في تل الصوان في الأزمان الأخيرة من حياة الموقع (الطبقتين الرابعة والخامسة) وأقاموا أبنيتهم الدينية (Tholoi) وخاصة في القسم الغربي من المستوطن الوسطي حيث نزلت أسسها من الحصى إلى مستوى الطبقة الثالثة مما أدّى إلى تحطيم وإزالة قسم كبير من أبنيتها.
4. قبل اختتام بحثنا في نتائج عمليات الموسم الخامس في تل الصوان نرى بأن الوقت قد حان للشروع بمحاولات أولية لتقييم ما وصلنا من معلومات بتكرار التنقيب في هذا الموقع ومحاولة وضع أدواره البنائية والمواد الأثرية المكتشفة فيها في إطارها الزمني المناسب. لقد مضى على شروعنا بالتنقيب في تل الصون ما يقرب عشر سنوات أنجز خلالها ثمانية مواسم كاملة من العمل، لقد أعطتنا تنقيبات الموسم الأول (ربيع 1964) فكرةً شاملة وواضحة عن محتويات الموقع بطبقاته البنائية الخمسة والمقبرة الغنية بالتماثيل والأواني الحجر والكائنة تحت جزء كبير من الموقع الأثري، وخاصة التلين الوسطي والجنوبي (ب، ج) لقد أكدت نتائج حفريات المواسم اللاحقة ما حققته عمليات الموسم الأول وزادت عليها الشيء الكثير.
إن العدد الكبير من تماثيل النساء الذي وجد في مقبرة تل الصوان( *) قد يعني أن الموقع كان في أوائل الألف السادس ق.م. (وربما قبل ذلك بقليل) مركزاً رئيساً لعبادة الإلهة استطعنا أن نميّز أحد معابدها فيه منذ أسفل الطبقات وربما أقيمت لها مزارات أخرى قبل زمن هذه الطبقة في مستوطن سابق قد يكشف عنه التنقيب في المواسم القادمة أسفل التل الوسطي وبحدود الخندق الدفاعي(**)، لقد وضعت تماثيل الأم الإلهية في قبور الصغار لتحميهم وترعاهم في رحلتهم الطويلة في عالم ما بعد الموت.(***)
(*) - نعني بها دائماً المقبرة الكائنة تحت الطبقة السفلى من الموقع
(**) - إلا إذا افترضنا بأن أوائل ساكني الموقع هم أصحاب الطبقة البنائية الأولى (السفلى) عندئذ لن يكون وجود لهذا المستوطن. إن الدلائل الآثرية تشير إلى ما يسبق أبنية الطبقة السفلى. فالخندق الدفاعي بالأصل كان قد اختط لأغراض سبقت زمن الطبقة الأولى حيث بعض أجزائها البنائية قد سدّت أقساماً من هذا الخندق.
(***)- للتفسيرات العديدة حول دمى النساء أو الأم الإلهية، انظر P.J Ucko "Anthropomorphic Fgureines) (1969) وخاصة الصفحات 409-436
إننا نجد في أبنية الطبقتين السفليتين (الأولى والثانية) والمقبرة الكائنة أسفلها وحدة حضارية متجانسة تختلف عن ما يعلوها في الطبقات الثاثة والرابعة والخامسة ففي هاتي الطبقتين (الأولى والثانية) وفي المقبرة تحتها عناصر من حضارتي جرمو وحسونة: فالأواني والمحابس (Rings) والأساور والقلائد الحجر وبعض الدمى السمجة من الطين كلها عناصر من الحضارة الأولى (أي جرمو)، كما أن الفخار السمج والدمى الطين وأدوات تهيئة الطعام المنزلية من الحجر وآلات الحجر والعظم والصون في هاتين الطبقتين من مظاهر حضارتي حسونة وجرمو ما بعد ظهور الفخار. ثم إن القليل من فخاريات حسنونة الأكيدة بأنواعها الخشن والملون، والملون المحزّز المكتشفة هنا هي من مظاهر طور حسونة المتقدّم، كل هذه العناصر تظهر في تل الصنوان بطابع وأسلوب محلي ثم إن الأبنية الكبيرة في الطبقتين الأولى والثانية بغرفمها المتعددة الواسعة والمشيدة باللبن ذي الحجوم الكبيرة لا نظير لها لا في جرمولا في حسونة ولا في أي مكان آخر نُقِّب لحد الآن..
لهذه كله، ومع علمنا بعدم جدوى الإكثار من التسميات، فإننا قد لا نكون مغالين في إطلاقنا التسمية: حضارة تل الصوان
Telles Sawwan Culture على كل ما يمت بصلة للطبقتين الأولى والثانية والمقبرة الكائنة أسفلها. إن حضارة تل الصون تتميز باحتوائها على عناصر من كل من طوري جرمو وحسونة بأسلوب محلي خاص بها، كما أن لها عناصرها المميزة الخاصة بها فقط ونعني بذلك البناء والنحت: نحت التماثيل والأواني من الحجر المرمر الشمعي والأواني والأشكال العقائدية الأخرى من الحجر أيضاً.
مع أن بعض الفخاريات المحززة (حسونة) تستمر في الظهور في الطبقة الثالثة إلا أن عنصر الفخار الرئيسي فيها وفي الطبقتين التاليتين (الرابعة والخامسة) هو سامراء بكل أنواعها: السمجة، وقليلة الخشونة، والمدلوكة، والملونة، والملونة المحززة، والمحززة، ثم غالبية أبنية الطبقة الثالثة أخذت تتبع أسلوباً معماريا ًخاصاً، ربما استمر بدرجة أقل في الطبقتين العلويتين، ويتميز من الخارج بمظهر الحرف اللاتيني (T). هناك احتمال، قد لا يكون بعيداً عن الواقع، كون أبنية عصر سامراء هذه كانت تشيّد لأغراض عقائدية، تماماً كما كان الحال مع أبنية عصر حلف ذات الشكل المزدوج ذي الغرفة الدائرية الكبيرة والأخرى المستطيلة الملصقة بها Tholoi وبسبب سيادة هذا النوع من العمارة مع طغيان فخاريات سامراء المميزة في الطبقات الثالثة والرابعة والخامسة فإننا نعتقد بأن ما تحويه هذه الطبقات الثلاث يستحق بكل جداره حمل اسم حضارة سامراء أكثر من غيرها في المواقع الأخرى. وربما يكون مركز هذه الحضارة هو تل الصوان بالذات!
إن حضارة حلف التالية قد تركت طابعها أيضاً بوضوح في الأقسام العليا من تل الصوان، فبالإضافة إلى كسرات فخار هذا العصر المميزة التي كانت ولا تزال تظهر بين طيات الموقع العليا فقد ظهرت أثناء عمليات الموسم الخامس أسس من الحصى لما يحتمل أن يكون بناءً عقائدياً (Tholos) من هذا العصر.
Comments powered by CComment