
التقرير الاولي للدكتور بهنام ابو الصوف ( مدير التحريات وحماية المواقع الاثرية في المديرية العامة للأثار ) وقد نشر في مجلة سومر ( هنا )
حينما تقرر البدء بتنفيذ مشروع جسر باب المعظم في منتصف السبعيينات من القرن المنصرم وابتدأت أعمال التحرّي والدراسات الهندسية الأولية في جانبي الكرخ والرصافة من بغداد في البقعة المحددة له ولمقترباته على ضفتي دجلة. قمنا من جانبنا في مديرية الآثار العامة بفحص المنطقة التي ستحتلها مقتربات الجسر في كلا طرفيه، وخاصة تلك الواقعة منها في جانب الكرخ في المنطقة المسماة بخضر الياس. إذ كنا على علم بوجود مسناة مشيدة بآجرّ بعضه قديم من النوع المعروف في مدينة بابل وفي غيرها من أمهات المدن البابلية القريبة من بغداد، وبعضه الآخر حديث. بالإضافة إلى أن مادة البناء هي الأخرى غير متجانسة. فالقار والجص والأسمنت كانت تشاهد في الأجزاء الظاهرة من هذه المسناة. من الواضح أن سبب وجود هذه المسناة في هذا المكان من بغداد كان لحماية هذه المنطقة من جانب الكرخ من أخطار الفيضانات. إن ما كان ظاهراً من هذه المسناة للعيان كان يبدو للنظر المتفحص حديثاً. لذا فقد كان الشك يساورنا في قدم أجزاء هذه المسناة، كما كان الظنّ يتجه إلى احتمال كون الآجرّ القديم المشيدة به بعض تلك المسناة منقولاً من بابل أو من غيرها من المدن القديمة في وسط العراق. ولم يكن في حينه، أي سبيل لفحص الأجزاء المستترة من هذه المسناة. إذ كان ما يقع منها خلف الواجهة المطلة على دجلة، عند مزار خضر الياس، مغطى بحي سكني كامل، وبعد ذلك (أي بعد هدم ذلك الحي) بأنقاض ذلك الحي بارتفاع لا يقل عن بضعه أمتار، مما يجعل من العمل الآثاري والتنقيب العلمي أمراً صعباً للغاية. لذا فقد أثرنا في حينه الانتظار حتى تبدأ أعمال تسوية البقعة التي ستقوم عليها مقتربات الجسر في هذا المكان وعندها سيصبح بالإمكان فحص حقيقة هذه المسناة وما يقع وراءها(*)
(*)بصدد ما ذُكر عن وجود ما يشبه المتراس يحاذي ضفة دجلة الغربية، وهو مشيد بالآجرّ البابلي وملاطه من القار، ومشاهدة ذلك منذ أواسط القرن الماضي، انظر دليل خارطة بغداد قديماً وحديثاً (1958) للمرحوم الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسه ص 27-28
وعندما بدأت أعمال التسوية في (أوائل صيف 1975). كان عدد من منتسبي مديرية الآثار العامة المختصين يتناوب الإشراف على تلك الأعمال لمشاهدة ما يستجد نتيجة لإزالة الأنقاض والأتربة المتراكمة. وقد لوحظت بالفعل أجزاء بناية قديمة ممتدة وراء واجهة المسناة باتجاه شارع الإمام موسى الكاظم المجاور. وهذه الأجزاء البنائية القديمة مشيدة بالآجرّ والقار، ولأجل التعرّف بصورة أوضح على هذه البقايا وطبيعتها والغرض من وجودها في هذا المكان عند نهر دجلة فقد سارعت المديرية العامة للآثار إلى وضع خطة عاجلة لإجراء التنقيب الواسع في منطقة المسناة بالتنسيق مع القائمين على تنفيذ مشروع الجسر في الشركة العراقية للمقاولات والمديرية العامة للطرق والجسور. وقد ابتدأت بالفعل أعمال التنقيب الموسع في أواسط حزيران (1975) واستمرت لمدة شهرين، ثم توقّفت بسبب ازدحام منطقة العمل بالآلات والمعدات استعداداً لصبّ دعامات الجسر على اليابسة في منطقة خضر الياس إلا أننا كنا نأمل استئناف التنقيب مرة أخرى فور الانتهاء من الأعمال الإنشائية لمقتربات الجسر في هذا المكان.(**)
(**) كانت الهيئة المكلّفة بإجراء التنقيب تتألف من كاتب المقال رئيساً وعضوية الآثاريين السيدين شاه محمد علي الصيواني وإسماعيل حسين حجارة. كما كان السيد عز الدين جعفر الصندوق مسؤولاً عن أعمال المسح والترسيم الهندسي وقد صوّر الحفريات واللقى المكتشفة السيد مظهر غالب
تم خلال هذين الشهرين الكشف عن بقايا جدران ضخمة مشيدة بالآجرّ المربع (الفرشي) والقار. طول ضلع الأجرة الواحدة يتراوح بين 33 إلى 35 سم كما أن سمكها يتراوح بين 7 إلى 8 سم. تعلو سطح العديد من هذا الآجرّ طبعة ختم الملك البابلي الشهير نبوخذ نصر الثاني (605-562 ق.م) أبرز ملوك الإمبراطورية البابلية الحديثة. وترجمة نص هذا الختم كالآتي:
(نبوخذ نصر ملك بابل حامي إيساكلا(***) وإيزدا(****) الابن البكر للملك نبوبلاصر ملك بابل).
(***) معبد الآله مردوخ في مدينة بابل.
(****) معبد الآله نابو في بورسيبا (برس نمرود جنوبي مدينة الحلة)
تتألف البقايا المكتشفة، لحدّ الآن، من كتلتين صلدتين، الجنوبية منهما الكائنة لصق مزار خضر الياس عبارة عن دعامة ضخمة من الآجرّ والقار ربما كان ذراعها الشرقي يدخل حوض دجلة إلى مسافات لم نستطيع تحديدها بعد. إن طول ما استُظهر من هذه الدعامة، لحد الآن 24 م تقريباً وعرضا 17.5م تتخلّله فتحة عند طرفه الشمالي ربما كانت لدرج ينزل إلى النهر، أما الكتلة الشمالية فتتألف من جدارين ضخمين متوازيين يذكراننا بدفاعات مدينة بابل على عهد نبوخذ نصر طول ما استُظهر منهما 41 م تقريباً، يحصران بينهما فراغاً وقد يكون ممراً عرضه 5.2 م تنحدر إلى قاعه درجات مشيّدة بنفس مادة بناء الجدارين (أي الآجرّ والقار). لقد ضيق هذا الممر عند نهايته بحيث جعل 1.80 ثم أغلق هذا التضيق أيضاً في فترة لاحقة. هذا وتخترق كل من هذين الجدارين المتوازين بوابة يعلوها قوس نصف دائري يشبه بشكله تلك الأقواس التي تعلو بوابات ومداخل مماثلة في أبنية ودفاعات مدينة بابل من الفترة ذاتها، وتمتد بقايا هذه الكتلة إلى مسافة في حوض النهر حيث ظهرت بقاياها في مكان إنزال دعامة الجسر الأولى في الماء قرب الضفة الغربية لدجلة. لقد أهملت هذه المنشآت البابلية واستغني عن استخدامها كلياً في زمن الفترة الفرثية في العراق (139ق. م-226م) .إذ وجدت أبنية وبقايا هذه الفترة وقد غطّت تلك المنشآت في جميع الأجزاء المكتشفة(*) بعد أن مهّدتها بحيث جعلت منها قاعدة (مصطبة) شيّدت فوقها قصورها وأحيائها السكنية. وأغلب الظن أن الساسانيين (226م-637م) الذين أعقبوا الفرثيين في وجودهم في أجزاء من العراق آنذاك قد استمروا في اتخاذ هذا المكان موضعاً لقصورهم وسكناهم. كما اتخذه العباسيون بعد ذلك أيضاً(**).
(*)_ الأدلة على ذلك مواد البناء الفرثية، وخاصة اللبن الضخم المعروف، والفخاريات الممثلة لتلك الفترة ثم النقد الفرثي الذي يرجع للملك ولجش الثالث (سنة 489 سلوقية المقابلة للسنة 178 الميلادية).
(**)- ربما تكون رحى المعركة التي درات بين قسم من جيش خالد بن الوليد والفرس في هذا المكان للسيطرة على المحل المعروف آنذاك بقرية سوق بغداد. حيث تمّ عبور قائد تلك القوة النسيم بن الديسم (12هـ - 633م) من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي على جسر ساساني كان معقوداً هناك. هذا وقد استفاد العباسيون من كرسي الجسر الشرقي والغربي فعقدوا هناك جسراً سنة 383هـ -992م وهو الجسر الذي نزل على مقربة منه الرحّالة ابن جبير أيام زيارته لبغداد سنة 580 هـ - 1184م. انظر المرحوم الدكتور مصطفى جواد (آثار بغداد الإسلامية) في دليل تاريخي على مواطن الآثار في العراق. بغداد 1952 ص 5-12
هذا وصف موجز لمنطقة الاكتشاف، وللأجزاء المُستظهرة لحد الآن، بقي الجانب المهم المتعلق بماهية هذه المنشآت وطبيعتها والغرض من تشييدها في هذا المكان عند نهر دجلة.
بالطبع إن الأقسام المُستظهرة من هذه المنشآت ليست كبيرة أو كافية إلى حد ما، بحيث تمكننا من أعطاء تفسيرات مباشرة وقاطعة ولهذا سأحاول هنا تقديم أكثر من احتمال معتمداً على ما هو متوفر من نصوص ومدوّنات لها علاقة من قريب أو بعيد بموضوع البحث ( * ) إن كون هذه المنشآت الموصوفة أعلاه بابلية من الفترة المعروفة بالدور البابلي الحديث (النصف الأول من القرن السادس ق. م.) شيدت في الغالب في زمن أشهر ملوك تلك الفترة نبوخذ نصر الثاني شيء مؤكد الآن، وذلك استناداً إلى الطبيعة المعمارية لهذه المنشآت ومطابقتها لمنشآت من الفترة ذاتها في مدينة بابل، إضافة إلى استخدام القار في البناء كما هو الحال في بابل نفسها(** ) كما وأن صراحة النص على الآجرّ حيث يعزى هذا الآجرّ على الأقل إلى نبوخذ نصر نفسه
(*) - إن أي احتمال آخر يقدّم من القارئ الكريم يرحّب به وهو عرضة للمناقشة، كما أن الاحتمالات التي سأقدمها هنا هي الأخرى عرضة للمناقشة.
(**) - كثر استخدام القار في البناء مع الآجرّ منذ العصر البابلي الحديث، وبقي استخدامه شائعاً في أبنية العراق القديم حتى أواخر العصر السلوقي (312-139 ق.م)
.
إن اقامة هذه المنشآت ذات علاقة بهذا النهر أي يمنحها الطبيعة الإروائية. وهنا أيضاً يكمن أكثر من احتمال: فهل كانت هذه البقايا جزءاً من شاذروان عظيم تمتد ذراعه (لاحظ الدعامة الجنوبية) إلى مسافات في دجلة لترفع من مناسيبه وتلقي بالفائض من مياهه إلى فتحات أو بوابات كائنة على ضفته (لاحظ الفتحات التي تعلوها أقواس في الكتلة الشمالية) تنساب بعدها إلى جداول وحقول في بقاع مجاورة ( * ) أم كانت هذه البقايا لمسناة أو ناظم عظيم شيّده نبوخذ نصر في هذا المكان للحد من طغيان دجلة في زمن الفيضانات خوفاً من انحداره من ثغرة في هذه البقعة وإغراقه ما يحيط ببابل من حقول ومزارع، لا بل تهديده مدينة بابل نفسها. وربما استفاد نبوخذ نصر من هذا الناظم لغرض دفاعي أيضاً. فبالإضافة إلى درء خطر الفيضان عن بابل وما يحيطها فإنه قد كان يعمد إلى فتح بوابات هذا الناظم عند الحاجة لملء المنخفضات المحيطة ببابل كي تصبح مستنقعات يتعين على المهاجمين اجتيازها قبل محاصرتهم لبابل نفسها. هناك احتمال آخر يسنده نص إلى نبوخذ نصر نفسه ( ** ) في كون هذه المنشآت هي بقايا لبداية سور عظيم شيّده نبوخذ نصر محكماً قوياً بدايته فوق أوبسس( *** ) عند نهر دجلة. ونهايته عند مدينة سبار (أبوحبة) على الفرات (في منطقة اليوسفية) لصدّ هجمات الأعداء من مملكة الميديين.
(*) - إن منطقة الكرخ في هذه البقعة لم تكن بالارتفاع الذي تُشاهد عليه الآن، وسبب ارتفاعها الحالي ناجم عن وجود هذه المنشآت أولاً ثم ما علاها بعدئذٍ من منشآت فرثية فساسانية وعباسية وحديثة.
(**) - انظر : Lane, W.H. 1923. Babylonian Problems ,pp.163-137 and 188-189.
(***) - اسم أطلقه المؤرخون اليونان أمثال سترابوا ( 24ق. م.) على مدينة سومرية قديمة عرفت باسم أكشاك في المدونات السومرية ثم أصبحت تسميتها أوبي (Upe) البابلية في الفترة الكاشية. وقد حورت اللفظة الأخيرة (أوبي) عند المؤرخين اليونان إلى أوبس (المرجع السابق: ص1-3) وهناك أكثر من احتمال عن موقع هذه المدينة أحدها ما يفترض وجودها قرب بلد على دجلة ويجعل من الجدار المشيّد باللبن والكائن إلى الشمال من بلد (على بعد 27 كم جنوبي سامراء) الجدار الميدي، أي جدار نبوخذ نصر كما أن رأياً آخر (حديثاً) يفترض وجودها أسفل بقايا المدينة الساسانية كوخة في منطقة سلوقية (انظر مجلة ما بين النهرين الإيطالية (تورينو) المجلد الأول 1966 ص17-38). إن صح الرأي الأخير يكون موضع السور، الذي نتحدث عنه في منطقة خضر الياس أكثر ملائمة لما ورد في نص نبوخذ نصر المار ذكره أعلاه خواصة إذا ما علمنا بأن السور الذي كان يعرف بالميدي سابقاً (الكائن شمال البلد) قد شيد على الأكثر في أوائل الفترة الساسانية واستمر استخدامه في العصور الإسلامية التالية، وقد عرف باسم المطبق عند الرحّالة والآثاريين الأوائل (سومر، المجلد العشرين 1964، ص83-89 القسم الأجنبي).
Comments powered by CComment