أدب الرثاء : البكاء على الاماكن المقدسة في حضارة بلاد الرافدين
حضي ادب الرثاء عند العراقيين القدماء باهتمام كبير وتنوع شديد ومكانة مرموقة لما له من ترابط مع حياة الناس وشعائرهم وهو يحتفظ بمسحة قدسية من خلال العقائد الدينية لحضارة بلاد الرافدين

حكمت بشير الاســــــود
أذار 2015
______________
تتجلى اهمية ادب الرثاء في كونه يظهر العادات التي كان يعبر بها الناس عن احزانهم ومشاعرهم تجاه الحوادث الجلل ، فهو يعكس انفعالات الناس وتخوفهم من حوادث الانهيار الاجتماعي . كما ان الكارثة التي المت بسومر عام 2004 ق.م الهمت الشعراء والمنشدين في نظم قصائد مطولة وتراكيب لمراث مؤلمة من خلال تكوينهم صورة لحالة الحزن والشقاء الموثر عبر التذكير بالمآسي والكوارث التي كان يحدثها الانهيار السياسي كما هو الحال عند التذكير بالكوارث البيئية (الطبيعية ) (الاسود ، حكمت 2002 ص1) . وقد حضي ادب الرثاء عند العراقيين القدماء باهتمام كبير وتنوع شديد ومكانة مرموقة لما له من ترابط مع حياة الناس وشعائرهم وهو يحتفظ بمسحة قدسية من خلال العقائد الدينية لحضارة بلاد الرافدين التي عدته جزء مهما من تقاليدهم البارزة فبقي ملازما لها كموروث ديني واجتماعي وتاريخي ووطني نلمسه في العديد من المولفات الادبية ، كما ان النصوص المسمارية لم تخل من تلميحات الرثاء او تعابيره (الاسود ، حكمت ص12) .
التعريف بادب الرثاء ومضامينه :
ان الرثاء والمناحة فن من فنون الشعر الغنائي الذي يعبر به الشاعر عن حزنه ولوعته لفقد شخص عزيز او قريب ، حيث تثير المآتم والهزائم والكوارث مجموعة عظيمة من الصرخات والاهات والشكاوى تتواتر بشكل يودي الى خلق نوع ادبي خاص هو المراثي والمناحات حين يقترن الموت بالرثاء ، ولانجد امة في التاريخ لم تعرف الرثاء لانه ليس هناك امة لم تعرف الموت .
وقد عرف ادبنا العراقي القديم الرثاء منذ عصور مبكرة والذي ظهر كاستجابة شعرية لكوارث خيالية كانت او حقيقية من خلال مجموعتين رثائيتين ، تضمنت الاولى مرثيات فردية ذات علاقة برثاء الاشخاص الذين تحين آجالهم فيعمد الرجال والنساء الى ندبهم وهم واقفين على قبورهم مونبين ومثنيين على خصالهم (كريمر 1981 ص297 )، وكانت الثانية الرثاء الجماعي الذي ظهر في العصور السومرية القديمة والذي يمثل نوعا من بواكير المراثي المتعلقة بتدمير المدن والمعابد (كريمر 1981 ص297 -299) . وقد احتلت النصوص الادبية الخاصة بالرثاء مكانة متميزة بين الادبيات السومرية حيث توزعت نصوص المراثي على اربعة مجموعات :
1- المراثي التاريخية (مراثي المدن ومناحاتها )
2- المراثي الدينية (مراثي الالهة والمعابد )
3- المراثي الشخصية (مراثي الملوك والافراد العاديين )
4- المراثي الطقسية (الشعائرية ) (الاسود ، حكمت 2002 )
استخدام المراثي الطقوسي :
عرف هذا النوع من الرثاء في العصر البابلي القديم وكذلك في الالف الاول ق.م في مدن بلاد الرافدين ، وكانت تلك المراثي تتلى في مناسبات دينية مثل بداية الشهر القمري فضلا عن ايام محددة من الشهر يقوم بانشادها كاهن الكالو kalu (وهم طبقة خاصة من الكهنة اشتهرت في مجال التراتيل الدينية واختصوا بالبكاء والنحيب وغناء الرثاء والعزاء في حالات الموت والدمار والكوارث وتهدئة غضب الاله ) (حسين ، ليث 1991) على صوت الطبل (Langdon,1925 -26 ,p.110-115 ) ، ومن المناسبات التي كانت تتلى فيها هذه المراثي في العصر البابلي القديم هي تلاوتها اثناء اعادة بناء معبد قديم ، وفي اثناء تهديم الجدران القديمة واستظهار الاسس الخاصة بالمعبد حتى وضع اللبنة الاولى في اساس المعبد الجديد ورفع البناء المقدس ، فنحن نقرأ في نص خاص بطقوس تجديد اسس المعبد كان يرتله كاهن الكالو من مرثيات شهر معين ويوم مناسب ( يجب ان تستظهر الاسس القديمة للمعبد عندما توضع اسس المعبد الجديد اثناء الليل ، وتنصب مناضد للقرابين وتنثر الحبوب حول المكان وتوقد المشاعل وتسكب القرابين ثم تتلى مرثية ومقطوعة نواح بمصاحبة طبل وتوضع لبنة الاساس الجديد ، ثم تنتهي مراسيم المعبد شرط ان لاتنقطع التقدمات والمراثي ) ( Dangin,1921,p.42-44 ) .
بيت الرثاء (النواح) :
ويدعى بالاكدية bit sipitte او sipittu(m) ويعني البيت او المكان الذي تقام به طقوس الحداد . كما جاء ايضا بصيغة sakanu الذي يعني (يقيم احتفال الحداد ) ، وكذلك ورد بصيغة susruhu الذي يعني (يجعل الناس ينتحبون او ينوحون ) (CDA, p. 324 ) . وهي طقوس للحزن والرثاء كانت تقام من قبل الناس في الشهر الثالث من السنة البابلية simanu ( وهو يقع بين ايار وحزيران ) (اسماعيل ، خالد 1999 ص11) . ويكون بيت الرثاء (النواح) bit sipittu في هذا الشهر مشهدا لفعاليات طقسية تدار من قبل كاهن kurgarru - مودي العبادة (MDA,p. 168 ) في اليوم الخامس عشر من الشهر حيث يتأوج فن ترتيل واحدة من قصائد الشعر الغنائي للحب مع زيارة الى موقع العبادة المعروف ب Equlu (George,2000 ,p.270-272 ) ، وهذه الطقوس لها علاقة مع معبد E – tur – kalamma وهو معبد الالهة Belet – Babili او عشتار بابل (George, 1993, p. 151, No.1117 ) وتتلى صلاة الى الاله شمش في البوابة الشرقية للمدينة ، والغرض من ذلك هو مواجهة بزوغ الشمس لما يعرف بطقس (صلاة) الصباح nepsu sa seri .
تبدأ الصلاة بالابتهال الى الاله شمش الذي يقوم بدور اله العدالة والذي يقارع الشر ، ولكنه يستمر في وصف كيف كان الهجوم العيلامي في نهاية العصر الكشي الذي ادى الى تدمير بابل ونهبها واسر الملك البابلي (انليل – نادن – اخي ) 1102 – 1099 ق.م وكذلك اخذ تمثال الاله مردوخ الى سوسة ، وقد حفظت ذكرى هذه الكارثة في طقوس الصلاة الاكدية مثل ذكرى الطوفان الذي حصل في العصور المبكرة والذي ذكر في عدد من المراثي الخاصة بالعبادة السومرية (George, 2000, p. 272 ) .
يتضمن النص صلاة اخرى وهي خاصة بصلاة بعد الظهر ، ويتحدد وقت صلاة الظهر ما بين اليوم الثالث واليوم التاسع تاركا الاحتمالية مفتوحة حيث ان طقس صلاة بعد الظهر قد يحدث في اي يوم من الايام المحددة . وهناك طقسان صغيران لليوم التاسع ، واحد في الصباح والاخر بعد الظهر ، في الصباح يذهب الكاهن الذي يودي العبادة kurgarru الى معبد E – me – ururu (George,1993,p.126,No.794 ) الواقع شرق بابل والمخصص للالهة نناي التي لها علاقة قريبة بالالهة عشتار E – tur – kalamma . ويواجه المتعبد جهة الشرق ومن دون ان يدخل الى غرفة العبادة يقذف بالفواكه الى خارج غرفة العبادة الخاصة بالالهة نناي . وان رمزية الفواكه والتي حددت بفاكهة الرمان hasharu وهي الفاكهة التي اعتبرت فاكهة مثيرة للشهوة الجنسية وتستعمل في عبادات نناي وعشتار وهو التزام من هتين الالهتين لمناصرة الحب الجنسي (George,2000,p.272 ) . ويكتمل الطقس في بيت الرثاء او النواح حيث يقوم المحتفلون بنثر الطحين وشجر العرعر على بضع آجرات ويوقدون نارا فوقها مع قيامهم بشوي انواع مختلفة من اللحوم والسمك وتسكب البيرة ويوضع سبع ارغفة من الخبز على النار ، وينتهي الطقس بغناء قصيدة حب (عندما اراك في Equlu ) (George,2000,p.273 ) .
لقد اطلق سكان بلاد الرافدين القدماء اسماء سومرية الصياغة على جميع انواع الابنية الدينية التي اقاموها ، وقد وردتنا قوائم باسماء الابنية الدينية من نتاج حضارة بلاد الرافدين القديمة نفسها حيث اكتشفت عدة قوائم مدونة بالخط المسماري على الواح من الطين تعود في الغالب الى العصر البابلي القديم وعثر عليه في مواقع : نينوى (تل قوينجق) ، نفر ، ايسن ، بوغزكوي (في تركيا) ، وهناك قائمة من العصر الاشولري الحديث عثر عليها في موقع دور – شروكين (خورسباد) (حنون ، نائل ج2 2006 ص132-133) ، ومن هذه الابنية الدينية وردت اسماء معابد تحمل معاني (بيت الرثاء ) وهي :
1- e . (a) . akkil وهو بيت الرثاء الذي كان عبارة عن معبد الاله ننشوبر في مدينة akkil .
2- e . akkil . du . ku وهو بيت الرثاء الذي كان عبارة عن معبد الاله ننشوبر في مدينة نفر (نيبور ) (George,1993, p. 66 , No. 49 , 53 )
مراثي الحزن الشعائرية :
اوردت لنا النصوص المسمارية نوع من مراثي الحزن الشعائرية التي كان كاهن الكالو يقوم بانشادها بمرافقة آلة موسيقية سومرية تعرف باسم (بالاك BALAG ) والتي تعني آلة موسيقية (الطبل) وهي اقرب ما تكون الى الطبلة النقارية ، كما يشبر هذا المصطلح السومري الى نوع خاص من الاغاني (Cohen,1974,p.55 , Black,1991,p.28, CAD, p. 38 B ) ، واستنادا الى النصوص المسمارية من عصر سلالة اور الاولى 2500 – 2350 ق.م فقد كانت هذه الالة من الالات التابعة الى المعبد وتتمتع بمركز خاص اذ كانت تقدم لها القرابين من الحيوانات (رشيد ، صبحي 1970 ص241-242 ) .
ان طقس الرثاء كان عنصرا رئيسا من طقوس بلاد الرافدين امتدت الى الفي سنة تقريبا ، وقد ابقى هذا التراث اللغة السومرية لغة دينية ، ووجد رثاء (بالاك) كنمط ادبي كان ينشد من قبل كاهن (كالو) بمصاحبة جوق من المنشدين على انغام آلة (بالاك) حيث رافق هذه الالة انشاد المراثي واخيرا اعطت اسمها لهذا النمط من الادب ( Cohen, p. 30 ) .
ويظهر احد النصوص المسمارية مرثية بالاك حزينة موجهة الى معبد E . tur . kalamma في بابل وهو معبد عشتار بابل او Belit – ili حيث انجز ال(بالاك) في نفس المعبد وهو يرثي دمار ذلك المعبد حيث يعد منظر المعابد المهجورة والابنية المقدسة المخربة هو مشهد متكرر من تاريخ حضارة بلاد الرافدين نتيجة للتخريب الذي يحدث بواسطة الاعداء (Black,1985,p.12 ) ، هذا الحدث يجعل الالهة والالهات الساكنين في هذه المعابد يهربون مثل الطيور ويذهبون الى فوق الى السماء (Frankfort,1965,p.268 ) ، وعندما تترك الالهة اماكنها التي تحطمت فان هذا يعني ان عالم الانسان قد تداعى خاصة عندما يصور الشاعر ان المعابد قد تحطمت ومن الصعب العيش فيها وهذا يعني فقدان كل الاحتمالات ، كل هذا دفع الالهة الى نصب قيثاراتها على خرائب ارض معابدها وتبدا استذكار الايام الماضية وهي ترثي دمار المعبد والمدينة من قبل عدو غير معروف ، المعبد قد ذل ّ والعبادة توقفت واصبح مهجورا (Jacobsen,1987,p. 447-451 ) :
لقد دمر ! وهي تقضي النهار بالبكاء
E – kur ، المبني بالاجر ، بيتي المقدس
عظيمي .. المعبد E . namtila
مدينتي سبار ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
المعبد E . babbar ، E - di - ku – kalama
مدينتي بابل ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
E-sag-ila المبني بالاجر ، بيتي المقدس
مدينتي بورسيبا ، المبنية بالاجر
E – zida المبني بالاجر ، المعبد E-mah-tila
E-temen-an-ki المبني بالاجر ، المعبد E-dara-ana
مدينتي الوركاء ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
E-ana المبنية بالاجر ، معبدي E-gipar-imin
______________
رفاقي الذي ليس اكثر ...
ولدي العظيم
رئيستي العظيمة للدير
مسكني المبني جيدا
جوهرتي suba
______________
آه بيتي الذي واقف كالسيد
آه بيتي الذي جالس كالملكة
بيتي الذي كان روح الامة في سومر
الذي كان روح البلاد الاجنبية
الذي كان مزدحما مثل حضيرة الماشية ، مثل زريبة الاغنام
بيتي ، بني لاجلي في الحلم
مدينتي ، بنيت لاجلي في الحلم
معبدي abzu المتواضع
الذي دمره العدو
البيت الذي اذله العدو
المدينة والبيت الذي عالجهما العدو بغباء
بيتي الذي بني جيدا ، والارض التي بنيت جيدا
بيتي اصبح مدمرا ، والارض اصبحت مدمرة
_____________
العدو نقل بالقوة زوج البيت الوسيم اسيرا
العدو نقل بالقوة ابن البيت الوسيم اسيرا
انها مهرجانات عظيمة ، لم تنجز بشكل لائق
انها .. انا .. التي لاتقدر بثمن ، ختمت في البيت
انها .. انا .. تركت في الزاوية
عبادتها توقفت ، شفاعتها تبدلت
شفاعتها للبيت الجيد تبدلت الى (آلهة) اجنبية
الان البيت الجيد له اسم
... وانا اهيم بلا هدف كريه ، انه انقلب الى مدينة اشباح
_____________
اهملوا اغلاق بابي المقدس ، وانا اهيم بلا هدف
بسبب قدري ، انا لااستطيع النوم ، انا لااستطيع ان اهجع
انا اتجول ، انا لااستطيع النوم
مثلما انا وقفت
اتى اليوم الى نهايته
القمر الشاب غرب ، المدينة تلاشت ودمرت
تلاشى كل الذين كانوا يسكنوها
المدينة تاسست بالغضب
المدينة التي لم تبارك
المدينة التي توعدها انليل
المدينة التي لم يعتني بها السيد
حيث نظر اليه آن شزرا
المدينة بنيت تحت قدر الشر
المدينة المبتلية بالسلاح
المدينة التي سوف لايمرح عند زاويتها
المدينة التي سوف لايمرح شبابها
المدينة دمرت بالمعركة
________________
بكت البقرة خارجا ، اضطجعت هناك
المراة المقدسة (للاله) آن ، انانا صرخت واضطجعت هناك
السماء تهتز ، ملكة E.gipar صرخت واضطجعت هناك
الارض مبتلية ، ملكة E-an-ki صرخت واضطجعت هماك
ذلك العدو دخل محل سكني باحذيته
ذلك العدو وضع يداه الغير مغسولتان علي
وضع يداه علي ... واخافني
ذلك العدو وضع يداه علي ، لقد قتلني بالخوف
انا كنت مرعوبة ، هو لم يخاف مني
مزق ثوبي من على جسدي ، البسه لزوجته
ذلك العدو قطع عقدي اللازوردي ، علقها على ابنته
في بيتي اخافني ، في بنائي المسور اخافني
مثل حمامة خائفة ، قضيت وقتي على خشبة السقف
مثل خفاش مجروح ، وضعت كلاجيء في شق
جعلني اطير هنا وهناك ، مثل الطير في بيتي الخاص
جعلني اطير هنا وهناك ، مثل الطير في مدينتي الخاصة
_______________
كيف اقول لبيتي ، انت ليس بيتي
كيف اقول لمدينتي ، انت ليست مدينتي
كيف اقول لمسكني ، انت ليس مسكني
انا قلت ، سوف لن ادخلك ثانية ، ولكن سحره يلتهمني
انا قلت سوف لن اذهب هناك ، ولكن سعادته غلبتني
كيف استطعت ان تخربها ، كيف استطعت ان تدمرها ، كيف قدرت لك نفسك ان تدمرها
سيدتي كيف استطعت ان تدمري مسكنك ، كيف استطعت ان تذليها
واحسرتاه .. انا اجول حولهم لكن لم اصبح تعبا
___________________
البقرة تندب بحزن في مرعاها الصحراوي
المراة المقدسة (للاله) آن تنوح بحزن في مرعاها الصحراوي
ملكة الوركاء تنوح بحزن في مرعاها الصحراوي
المدينة بقدرها المولم ، لاتستطيع ان تكون فرحة
المدينة بقدرها الذابل ، لاتستطيع ان تكون فرحة
انت تبكين سيدتي بصوت حزين تنوحين
آه ... انا عبدة لهم ، من يسافر من الجنوب ، انا الخاضعة للجبال
آه .. انا عبدة لهم ، من يسافر اسفل الشمال ، انا الخاضعة للجبال
النافذة التي نظرت منها تحطمت ، حماماتها طارت بعيدا
هجرت الحمامات حافة النوافذ ، اين طاروا ؟
طيورها هجرت اعشاشها ، اين اخذوهم ؟
شعبها هجر محل سكناه ، اين ذهبوا ؟
دعهم يقولون الصلاة بالنهار ، ويقدمون الذبائح في الليل
سيكون نواح في الصلاة بالنهار
دع الليل يكون مقضيا بالصلاة
انانا ، لتكن هناك صلاة بالنهار ( Black,1985,p.33-40 )
التعليق على النص :
ان رثاء (بالاك) الموجه الى معبد E-tur-kalamma معبد الالهة عشتار في بابل الذي كان
موجودا خلال حكم ابل – سين 1830 – 1813 ق.م وهو يشير كذلك الى التمير (التاريخي)
الفعلي لمعابد معينة ومدن جاء ذكرهم في المقطع الاول من النص (ستة مدن و16 معبدا ) . فقد ذكرت العاصمة بابل اشهر مدن العصر البابلي القديم ، وذكرت سبار (ابو حبة) وكذلك بورسيبا (برس نمرود) قرب مدينة بابل ، وكذلك جاء ذكر الوركاء (اوروك) اكبر المدن السومرية في القسم الجنوبي من العراق . وياتي ذكر المعابد التي دمرت تباعا وهي ( معبد ايكور ، معبد الاله انليل في نفر ، ومعبد نامتيلا الحرم المقدس للاله مردوخ في بابل ، ومعبد اي ببار معبد الاله شمش / اوتو في لارسا ، ومعب دي كا كالاما ، معبد الاله شمش في بابل ، ومعبد ايساكيلا معبد الالهة عشتار في بابل ، وايزيدا معبد الاله مردوخ في بورسيبا ، ومعبد اي ماخ تيلا الخاص بالاله مردوخ في ايساكيلا في بابل ، و اي تيمن انكي زقورة الاله مردوخ في بابل و اي دارو انا قدس الاقداس للالهة زربانيتم زوجة الاله مردوخ في ايساكيلا بابل ، و اي كيبار ايمن زقورة الالهة عشتار في الوركاء ) ، المقطع الشعري التالي يشكل مناجاة للنفس تقوم بها الالهة من حيث انها ترثي دمار المعبد والمدينة من قبل عدو غير معروف ، فقد ذل المعبد وتوقفت العبادة واصبح هذا البناء مهجورا ، المقطع اللاحق هو حكاية قصيدة من الشعر الغنائي حيث استعمل المجاز وهو شيء مالوف في ادب الرثاء ، الالهة مهتاجة مثل البقرة وهي توصف كيف ان العدو دنس هذا المكان المقدس ودنسها هي شخصيا وكيف جردها من كل شيء واستاثر هو به وهي خائفة ومرعوبة مثل طير التجأ الى شق دمر عشه فهو يلتجأ الى شق في جدار او يطير من مكان الى آخر ، المقطع الاخير يحتوي على ابتهال طويل ، مدن ومعابد عديدة دمرت بالكامل فبكتهم الالهة انانا في رثاء صعب وضمني ، وحتى الصلاة كانت اشبه بالنواح .
طقوس الحزن في بيت النواح :
انبثقت فكرة الملك البديل التي اصبحت من التقاليد الملكية في العراق القديم من اجل المحافظة على حياة الملك الاصيل وحكمه من كل سوء ، اذ يتم تنصيب هذا الملك ما يقارب مائة يوم ، ويمنح جميع الصلاحيات ومن ثم يقتل الملك البديل ويدفن مع زوجته بمراسيم ضخمة ويسترد الملك الاصيل عرشه بسلام (ساكس 1979 ص416 ) .
بعد ذلك يعرض جثمانهما امام الناس بصورة لائقة ويدفنان في قبر ويعلن الحداد (Lambert,1968,p.109-112 ) ويقام النواح عليهما في مكان يدعى (بيت النواح ) كما جاء في احد النصوص المسمارية التي تصف طقوس الحزن على الملك البديل حيث نقرا ما نصه ( الملابس البيضاء سوف يلبسها سيدي الملك ، يومان كافيان ، في الشهلر ، وسوف يستانف سيدي الملك حياته الطبيعية في اليوم الثاني والعشرين ، كما سيعلم سيدي الملك ان هناك – بيت النواح E – ta- dir – ti ) ( Parpola,1993, p. 187 ) . وقد ورد المصطلح tadirtu في المعاجم الاكدية بمعنى – المزاج الكئيب او المحزن والذي يبدو انه يتناسب مع الحدث (CDA, p. 393 ) . وفي نص آخر يخاطب المدعو (مردوخ – شاكن – شومي ) الملك فيما يخص طقوس الحزن على الملك البديل ما نصه ( دع الملك سيدي يلبس ملابس بيضاء في اليوم العشرين ، ويطلب غذاء على المنضدة اللامعة ، وكما يعلم سيدي الملك هناك بيت النواح او الحزن ) (Parpola, p.187 ) .
النواح (البكاء) على الاماكن المقدسة :
ان بيت النواح او بيت الرثاء الذي ورد ذكره في النصوص الادبية في حضارة بلاد الرافدين هو المكان الذي كانت تقام به طقوس حزينة في ايام محددة من الشهر او بعد الانتهاء من مهمة الملك البديل او خلال مراثي الحزن الشعائرية التي كان يقوم بانشادها كاهن من صنف خاص على انغام آلة موسيقية ، وهي تحكي قصة دمار المعبد او المدينة من قبل الاعداء . وان المقصود ببيت النواح هو ( المعبد ) ، ذلك المكان الذي يربط العلاقة الغريبة بين الالهة والملك والالهة والناس من خلال طقوس اقامة المراثي وارتداء اثواب خاصة بالنواح والندب لتهدئة الغضب الالهي او التخفيف منه .
ان ما يدفع الانسان الى البكاء (CDA, p. 36 ) baku ينم عن الكثير من شخصيته ، فالطفل يبكي طلبا للغذاء ، والولد يبكي عند فقد شيئا يحبه ، ويبكي الكبار في مواجهة الموت والصدمات ، ولعل من اكبر الصدمات التي واجهها الانسان في بلاد الرافدين هو التدمير الذي كان يصيب المعبد العراقي القديم ، سواء كانت الاضرار التي تصيب ابنية المعبد بسبب الظواهر الطبيعية كالامطار والرطوبة التي تودي اللى الانهيار ويصبح غير ممكن اعادته بواسطة الترميم ، او عندما تضرب الصواعق احيانا قمة المعبد وتودي الى اشعال النار فيه ومن ثم تدميره او بوساطة الحريق المتعمد فضلا عن الحروب واجتياح الغزاة للمدن وما يرافقه من عمليات تدمير للمعابد ، كل هذه الامور تجعل الالهة والالهات الساكنين في المعابد يهربون مثل الطيور ويذهبون الى فوق الى السماء (حسب تعبير العراقيين القدماء ) (Frankfort,1965,p.288 ) . وعندما تترك الالهة اماكنها التي تحطمت فان هذا يعني ان عالم الانسان قد تداعى خاصة عندما يصور الشاعر ان المعابد اصبحت اكواخا كحظائر الاغنام وزرائب الماشية حيث من الصعب العيش فيها ، وان مغادرة الالهة مدنها ومعابدها بسبب التخريب الذي حدث بوساطة الاعداء والغزاة في كل سومر ، اعتبر هذا الامر بالنسبة للسامع القديم عالمه الذي تداعى ، فعندما تترك الالهة الاماكن التي تحطمت يعني فقدان كل الاحتمالات ، وكل هذا دفع على سبيل المثال الالهة (ننكال) الى نصب قيثارتها على خرائب ارض معبدها وتبدا باعادة استذكار الايام الماضية (Jacobsen , 1987 , p. 447-451 ) .
وقد ذكرت بعض النصوص المسماريةحول احتفال البكاء الكثير (ezen) IR.GU.LA او عيد البكاء الكثير والتجوال في المدينة (ezen) IR.GU.LA.URU –nigin-na ،ويبدوانهذا العيد كانله ارتباط باحتفالات عيد اكيتو الذي يصادف في فترة الخريف خلال العصر البابلي القديم ، عندما كان الاله مردوخ يختفي لمدةيوم او يومين من ايام عيد راس السنةالبابلية(اكيتو) في موضع يشار اليه باسم جبل (خرشانو) وهومن اسماء العالم السفلي حيث يصاب الاله مردوخ بجروح اثناء جلبهالىالحجز، وفي اثناء غيابه ياخذ الناس بندبه والبحث عنه بلهفة وجزع ويقوم ابنه الاله نابو بالبحث عنه حيث يصيب المدينةحالةمن الفوضى والارتباك يتقاتل الناس خلالها فيما بينهم (حنون 2005 ص157 ) . ويبين هذا النص ان احتفالات راس السنة البابلية كانت تحتوي في فقراتها على تمثيلية اخراج الاله نابو لوالده الاله مردوخ من جبل العالم الاسفل ، وان اليوم الذي تجري فيه هذه التمثيلية يكون يوماعصيبا على السكاناذ يحزن فيه الناس ويتضاربون فيما بينهم حتى تسيل دمائهم مثلما سال دم الالهمردوخ عندما اخذ الى العالم الاسفل حيث قامت عندها سيدة بابل (زوجة الاله مردوخ – صربانيتم ) التي كانت ترتدي في ظهرها الصوف الاسود وعلى صدرها صوف ملون ومسحت بيديها الدم السائل من قلبه ، وبعد ان يتحرر الالهمردوخ من سجنه ويعود الى مدينة بابل تعم الفرحة بعودته وتقام الاحتفالات وتبدأ تلاوة قصةالخليقة(النعيمي ،راجحة 1976 ص112-114 ) .
الاصالة والتاثر :
يمتاز ادب حضارة بلاد الرافدين باهميته الخاصة في تاريخ تطور الحضارات البشرية والفكر الانساني من خلال التاثيرات التي خلفها في اداب الحضارات الاخرى (باقر 1976 ص39-40 ) ، ويتجلى هذا التاثير بشكل واضح في معتقدات العبرانيين التي ترجع الى اصول سومرية وبابلية وصلت اليهم من خلال الصلات التجارية والسياسية والحملات العسكرية ، واهم من ذلك كله من خلال وجود العبرانيين انفسهم في بابل اثناء التهجير البابلي الذي حدث مرتين خلال حكم الملك نبوخذنصر الثاني 605-562 ق.م (علي ، فاضل 1989 ص319 ) حيث اكتشفوا في بابل افكار الحكمة في الوضع البشري فكانوا على صلة مباشرة بفكر وممارسات دينية وثقافية كانت منتشرة انتشارا واسعا في مناطق الشرق الادنى القديم .
البكاء على حائط المبكى :
ليس هناك ادنى شك بان مفهوم المراثي التاريخية الخاصة بمراثي المدن ومناحاتها بكل محتواها تعود الى فكر عراقي قديم عرضه لنا الادباء الرواد لبلاد الرافدين ، وان اليهود المعبرين عن الرثاء بالنواح على الجدار الغربي من هيكل سليمان – المعبد المدمر (حائط المبكى) يحملون تقليدا بدأ في سومر قبل اكثر من اربعة آلاف سنة حيث كانت جدران اور ومعابدها تعبر عن تلك المراثي .( Gwaltney,1983, p. 191-192 ) .
ويعتبر داود النبي صاحب فكرة بناء هيكل ثابت للرب بدل خيمة الشهادة المتنقلة ، وقد وعد الرب داود بان يكون البناء في عهد ابنه ووريثه سليمان . اما موضع الهيكل وهندسته فقد عينه داود قبل موته ثم بدأ سليمان العمل في البناء في السنة الرابعة من حكمه واستغرق العمل سبع سنوات وستة اشهر . وارتفع البناء فوق جبل (حورية) في القدس عند بيدر (ارونة) اليبوسي بعد ان مهدت الارض وسدت الثغرات التي فيها . وشيدت الحيطان من حجارة نقلت من المحاجر المعروفة الى اليوم بمقالع سليمان (قرب باب العمود) وكان خشب السطح والابواب من الارز وخشب الارض من السرو والكل مغطى بالذهب ، وكان الهيكل يتجه الى الشرق وكان بجانب مدخله رواق وعوامبد ثم اتسع الرواق في عهد خلفاء سليمان حتى شمل جميع الجهات ، اما المذبح فكان صندوقا من الخشب الثمين مربع الحجم مغطى بالنحاس وكانت النار تشتعل على راسه والى جانبها وضعت اوعية الغسيل من النحاس ليتطهر بها الكهنة والذبائح . وقد حافظ هيكل سليمان على عظمته مدة اربع قرون وربع منذ حوالي 968 ق.م الى ان هاجم البابليون القدس واستولوا على ما في الهيكل من ثروة سنة 587 ق.م (قاموس الكتاب المقدس 2000 ص11012-1014 ) .
وتعرف الموسوعة اليهودية (الحائط الغربي) الذي يسمى بالعبرية (كوتيل همعرافي ) بانه جزء من جدار الهيكل الذي ظل معطلا منذ تدميره الثاني في العام 70 م وانه اضحى اكثر الاماكن قدسية في العادات والشعائر اليهودية بفعل قربه من جدار الهيكل ومن مقدسات جبل الهيكل ، وان هذا الجزء خصص للبكاء على انهيارلا المعبد اليهودي وعلى منفى شعب اسرائيل وان اهميته تكمن في كونه يشكل شمعة تضاء من اجل احياء الموروث الديني اليهودي في القرن العشرين ويوجج ذكريات المجد الاسرائيلي القديم ويبعث الامل في استعادته .
وقد اعتاد اليهود على مدى عدة قرون الوقوف امام الحائط وابداء الاعجاب به وباتجاهاته المختلفة ولاسيما الكتل الحجرية السفلى التي ترتفع الواحدة منها نحو 1 م وبطول 30/3م وبوزن يزيد على 100 طن ، وان الصلوات الاسرائيلية القديمة منذ اخماد ثورة (بركوخفا) ضد الرومان عام 135 م موجهة للجزء المدمر من المعبد . ومن الجدير بالذكر ان جميع بقايا المعبد قد محيت تماما عبر الزمن وان جهة العبادة لم تكن واضحة بالنسبة لليهود ولم يكن واضحا ما هو المكان المخصص من الحائط على وجه الدقة لاداء شعائر العبادة عليه ، ويعتبر الجزء المجاور للبوابة الغربية هو الجزء الاكثر قدسية من الحائط اذ انه لم يتعرض للهدم كباقي اجزاء الحائط الاخرى مما يضفي عليه صفة القداسة لانه غير قابل للهدم حسب اعتقاد اليهود (معلومات من الانترنيت) .
المصادر :
- اسماعيل ، خالد سالم ، الاشهر اصولها وتسمياتها في حضارة وادي الرافدين واثرها على البلدان المجاورة ، بحث مقدم الى الندوة العلمية لمهرجان بابل الدولي الحادي عشر ، بغداد 1999 .
- الاسود ، حكمت بشير ، ادب الرثاء في بلاد الرافدين في ضوء المصادر المسمارية ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة الموصل 2002 .
- اوبنهايم ، ليو ، بلاد ما بين النهرين ، ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق ، بغداد 1981 .
- باقر ، طه ، مقدمة في ادب العراق القديم ، بغداد 1976 .
- حسين ، ليث مجيد ، الكاهن في العصر البابلي القديم ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد 1991 .
- حنون ، نائل ، المدافن والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة ، ج2 دمشق 2006 .
- حون ، نائل ، الحياةوالموت في حضارةبلاد الرافدين القديمة- دمشق 2005 .
- رشيد ، صبحي انور ، تاريخ الالات الموسيقية في العراق القديم ، بيروت 1970 .
- ساكس ، هاري ، عظمة بابل ، ترجمة وتعليق د. عامر سليمان ، الموصل 1979 .
- علي ، فاضل عبد الواحد ، من الواح سومر الى التوراة ، بغداد 1979 .
- قاموس الكتاب المقدس ، تاليف نخبة من الباحثين ، ط 13 ، بيروت 2000 .
- كريمر ، صموئيل نوح ، السومريون ، ترجمة د. فيصل الوائلي ، الكويت 1981 .
- النعيمي ، راجحة خضير ، الاعياد في بلاد الرافدين ، رسالةماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد 1976 .
- Black, J ; Eme – Sal cult song and prayers, AULA, Orientalis, Vol. IX,1991 .
- Black,J; A-se-er Gi6 – ta, A Balag of Inana , AsJ, 7 (1985) .
- Cohen,M.E; Balag-compositions , Sumerian lamentation liturgies of the second and first Millenium B.C , (Sorces of the Ancient Near East ) , Vol. I, 1974 .
- Dangin,T; Rituals Accadians, Paris 1921 .
- Frankfort,H; Kingship and gods, Chicago,1965 .
- George,A; Four Temple ritual from Babylon,IN, Wisdom, Gods and Literature, Eisenbrauns, 2000 .
- George,A; House most high , Eisenbrauns,1993 .
- Gwaltney ,W.C.JR, The Biblical Bock of lamentation , In the context of new Eastern lament literature. In . Scripture in context, II, Edited by , W.W. Hallow, USA,1983.
- Hallow,W.W; Lamentation and prayer in Sumer and Akkad , In , Civilization of the ancient Near East, by , J.M . Sasson , Vol . III , Newyourk, 1995 .
- Jacobsen,Th; The Harp that once, London,1987 .
- Lambert,W.G; Apart of the ritual of the substitute king, AFO,, Band 19 (1968) .
- Langdon,S; Calander of liturgies and prayer (AJSL), 42 ( 1925-26).
- 13 -
- Parpola,S; Letters from Assyrian and Babylonian scholars, Helsinki, 1993 .
المختصرات :
- AFO : Archiv fur Orientforschung .
- AJSL : American Journal of Semitic Languages and Lituratures .
- ASJ : Acta Sumeralogical (Japan) .
- CDA : Jermy Black . et.al. Aconcise Dictionary of Akkadian , Vol. 5 , Wiesbaden, 2000 .
- MDA : Manuel D , Epigraphic Akkadianne .
أذار 2015
______________
تتجلى اهمية ادب الرثاء في كونه يظهر العادات التي كان يعبر بها الناس عن احزانهم ومشاعرهم تجاه الحوادث الجلل ، فهو يعكس انفعالات الناس وتخوفهم من حوادث الانهيار الاجتماعي . كما ان الكارثة التي المت بسومر عام 2004 ق.م الهمت الشعراء والمنشدين في نظم قصائد مطولة وتراكيب لمراث مؤلمة من خلال تكوينهم صورة لحالة الحزن والشقاء الموثر عبر التذكير بالمآسي والكوارث التي كان يحدثها الانهيار السياسي كما هو الحال عند التذكير بالكوارث البيئية (الطبيعية ) (الاسود ، حكمت 2002 ص1) . وقد حضي ادب الرثاء عند العراقيين القدماء باهتمام كبير وتنوع شديد ومكانة مرموقة لما له من ترابط مع حياة الناس وشعائرهم وهو يحتفظ بمسحة قدسية من خلال العقائد الدينية لحضارة بلاد الرافدين التي عدته جزء مهما من تقاليدهم البارزة فبقي ملازما لها كموروث ديني واجتماعي وتاريخي ووطني نلمسه في العديد من المولفات الادبية ، كما ان النصوص المسمارية لم تخل من تلميحات الرثاء او تعابيره (الاسود ، حكمت ص12) .
التعريف بادب الرثاء ومضامينه :
ان الرثاء والمناحة فن من فنون الشعر الغنائي الذي يعبر به الشاعر عن حزنه ولوعته لفقد شخص عزيز او قريب ، حيث تثير المآتم والهزائم والكوارث مجموعة عظيمة من الصرخات والاهات والشكاوى تتواتر بشكل يودي الى خلق نوع ادبي خاص هو المراثي والمناحات حين يقترن الموت بالرثاء ، ولانجد امة في التاريخ لم تعرف الرثاء لانه ليس هناك امة لم تعرف الموت .
وقد عرف ادبنا العراقي القديم الرثاء منذ عصور مبكرة والذي ظهر كاستجابة شعرية لكوارث خيالية كانت او حقيقية من خلال مجموعتين رثائيتين ، تضمنت الاولى مرثيات فردية ذات علاقة برثاء الاشخاص الذين تحين آجالهم فيعمد الرجال والنساء الى ندبهم وهم واقفين على قبورهم مونبين ومثنيين على خصالهم (كريمر 1981 ص297 )، وكانت الثانية الرثاء الجماعي الذي ظهر في العصور السومرية القديمة والذي يمثل نوعا من بواكير المراثي المتعلقة بتدمير المدن والمعابد (كريمر 1981 ص297 -299) . وقد احتلت النصوص الادبية الخاصة بالرثاء مكانة متميزة بين الادبيات السومرية حيث توزعت نصوص المراثي على اربعة مجموعات :
1- المراثي التاريخية (مراثي المدن ومناحاتها )
2- المراثي الدينية (مراثي الالهة والمعابد )
3- المراثي الشخصية (مراثي الملوك والافراد العاديين )
4- المراثي الطقسية (الشعائرية ) (الاسود ، حكمت 2002 )
استخدام المراثي الطقوسي :
عرف هذا النوع من الرثاء في العصر البابلي القديم وكذلك في الالف الاول ق.م في مدن بلاد الرافدين ، وكانت تلك المراثي تتلى في مناسبات دينية مثل بداية الشهر القمري فضلا عن ايام محددة من الشهر يقوم بانشادها كاهن الكالو kalu (وهم طبقة خاصة من الكهنة اشتهرت في مجال التراتيل الدينية واختصوا بالبكاء والنحيب وغناء الرثاء والعزاء في حالات الموت والدمار والكوارث وتهدئة غضب الاله ) (حسين ، ليث 1991) على صوت الطبل (Langdon,1925 -26 ,p.110-115 ) ، ومن المناسبات التي كانت تتلى فيها هذه المراثي في العصر البابلي القديم هي تلاوتها اثناء اعادة بناء معبد قديم ، وفي اثناء تهديم الجدران القديمة واستظهار الاسس الخاصة بالمعبد حتى وضع اللبنة الاولى في اساس المعبد الجديد ورفع البناء المقدس ، فنحن نقرأ في نص خاص بطقوس تجديد اسس المعبد كان يرتله كاهن الكالو من مرثيات شهر معين ويوم مناسب ( يجب ان تستظهر الاسس القديمة للمعبد عندما توضع اسس المعبد الجديد اثناء الليل ، وتنصب مناضد للقرابين وتنثر الحبوب حول المكان وتوقد المشاعل وتسكب القرابين ثم تتلى مرثية ومقطوعة نواح بمصاحبة طبل وتوضع لبنة الاساس الجديد ، ثم تنتهي مراسيم المعبد شرط ان لاتنقطع التقدمات والمراثي ) ( Dangin,1921,p.42-44 ) .
بيت الرثاء (النواح) :
ويدعى بالاكدية bit sipitte او sipittu(m) ويعني البيت او المكان الذي تقام به طقوس الحداد . كما جاء ايضا بصيغة sakanu الذي يعني (يقيم احتفال الحداد ) ، وكذلك ورد بصيغة susruhu الذي يعني (يجعل الناس ينتحبون او ينوحون ) (CDA, p. 324 ) . وهي طقوس للحزن والرثاء كانت تقام من قبل الناس في الشهر الثالث من السنة البابلية simanu ( وهو يقع بين ايار وحزيران ) (اسماعيل ، خالد 1999 ص11) . ويكون بيت الرثاء (النواح) bit sipittu في هذا الشهر مشهدا لفعاليات طقسية تدار من قبل كاهن kurgarru - مودي العبادة (MDA,p. 168 ) في اليوم الخامس عشر من الشهر حيث يتأوج فن ترتيل واحدة من قصائد الشعر الغنائي للحب مع زيارة الى موقع العبادة المعروف ب Equlu (George,2000 ,p.270-272 ) ، وهذه الطقوس لها علاقة مع معبد E – tur – kalamma وهو معبد الالهة Belet – Babili او عشتار بابل (George, 1993, p. 151, No.1117 ) وتتلى صلاة الى الاله شمش في البوابة الشرقية للمدينة ، والغرض من ذلك هو مواجهة بزوغ الشمس لما يعرف بطقس (صلاة) الصباح nepsu sa seri .
تبدأ الصلاة بالابتهال الى الاله شمش الذي يقوم بدور اله العدالة والذي يقارع الشر ، ولكنه يستمر في وصف كيف كان الهجوم العيلامي في نهاية العصر الكشي الذي ادى الى تدمير بابل ونهبها واسر الملك البابلي (انليل – نادن – اخي ) 1102 – 1099 ق.م وكذلك اخذ تمثال الاله مردوخ الى سوسة ، وقد حفظت ذكرى هذه الكارثة في طقوس الصلاة الاكدية مثل ذكرى الطوفان الذي حصل في العصور المبكرة والذي ذكر في عدد من المراثي الخاصة بالعبادة السومرية (George, 2000, p. 272 ) .
يتضمن النص صلاة اخرى وهي خاصة بصلاة بعد الظهر ، ويتحدد وقت صلاة الظهر ما بين اليوم الثالث واليوم التاسع تاركا الاحتمالية مفتوحة حيث ان طقس صلاة بعد الظهر قد يحدث في اي يوم من الايام المحددة . وهناك طقسان صغيران لليوم التاسع ، واحد في الصباح والاخر بعد الظهر ، في الصباح يذهب الكاهن الذي يودي العبادة kurgarru الى معبد E – me – ururu (George,1993,p.126,No.794 ) الواقع شرق بابل والمخصص للالهة نناي التي لها علاقة قريبة بالالهة عشتار E – tur – kalamma . ويواجه المتعبد جهة الشرق ومن دون ان يدخل الى غرفة العبادة يقذف بالفواكه الى خارج غرفة العبادة الخاصة بالالهة نناي . وان رمزية الفواكه والتي حددت بفاكهة الرمان hasharu وهي الفاكهة التي اعتبرت فاكهة مثيرة للشهوة الجنسية وتستعمل في عبادات نناي وعشتار وهو التزام من هتين الالهتين لمناصرة الحب الجنسي (George,2000,p.272 ) . ويكتمل الطقس في بيت الرثاء او النواح حيث يقوم المحتفلون بنثر الطحين وشجر العرعر على بضع آجرات ويوقدون نارا فوقها مع قيامهم بشوي انواع مختلفة من اللحوم والسمك وتسكب البيرة ويوضع سبع ارغفة من الخبز على النار ، وينتهي الطقس بغناء قصيدة حب (عندما اراك في Equlu ) (George,2000,p.273 ) .
لقد اطلق سكان بلاد الرافدين القدماء اسماء سومرية الصياغة على جميع انواع الابنية الدينية التي اقاموها ، وقد وردتنا قوائم باسماء الابنية الدينية من نتاج حضارة بلاد الرافدين القديمة نفسها حيث اكتشفت عدة قوائم مدونة بالخط المسماري على الواح من الطين تعود في الغالب الى العصر البابلي القديم وعثر عليه في مواقع : نينوى (تل قوينجق) ، نفر ، ايسن ، بوغزكوي (في تركيا) ، وهناك قائمة من العصر الاشولري الحديث عثر عليها في موقع دور – شروكين (خورسباد) (حنون ، نائل ج2 2006 ص132-133) ، ومن هذه الابنية الدينية وردت اسماء معابد تحمل معاني (بيت الرثاء ) وهي :
1- e . (a) . akkil وهو بيت الرثاء الذي كان عبارة عن معبد الاله ننشوبر في مدينة akkil .
2- e . akkil . du . ku وهو بيت الرثاء الذي كان عبارة عن معبد الاله ننشوبر في مدينة نفر (نيبور ) (George,1993, p. 66 , No. 49 , 53 )
مراثي الحزن الشعائرية :
اوردت لنا النصوص المسمارية نوع من مراثي الحزن الشعائرية التي كان كاهن الكالو يقوم بانشادها بمرافقة آلة موسيقية سومرية تعرف باسم (بالاك BALAG ) والتي تعني آلة موسيقية (الطبل) وهي اقرب ما تكون الى الطبلة النقارية ، كما يشبر هذا المصطلح السومري الى نوع خاص من الاغاني (Cohen,1974,p.55 , Black,1991,p.28, CAD, p. 38 B ) ، واستنادا الى النصوص المسمارية من عصر سلالة اور الاولى 2500 – 2350 ق.م فقد كانت هذه الالة من الالات التابعة الى المعبد وتتمتع بمركز خاص اذ كانت تقدم لها القرابين من الحيوانات (رشيد ، صبحي 1970 ص241-242 ) .
ان طقس الرثاء كان عنصرا رئيسا من طقوس بلاد الرافدين امتدت الى الفي سنة تقريبا ، وقد ابقى هذا التراث اللغة السومرية لغة دينية ، ووجد رثاء (بالاك) كنمط ادبي كان ينشد من قبل كاهن (كالو) بمصاحبة جوق من المنشدين على انغام آلة (بالاك) حيث رافق هذه الالة انشاد المراثي واخيرا اعطت اسمها لهذا النمط من الادب ( Cohen, p. 30 ) .
ويظهر احد النصوص المسمارية مرثية بالاك حزينة موجهة الى معبد E . tur . kalamma في بابل وهو معبد عشتار بابل او Belit – ili حيث انجز ال(بالاك) في نفس المعبد وهو يرثي دمار ذلك المعبد حيث يعد منظر المعابد المهجورة والابنية المقدسة المخربة هو مشهد متكرر من تاريخ حضارة بلاد الرافدين نتيجة للتخريب الذي يحدث بواسطة الاعداء (Black,1985,p.12 ) ، هذا الحدث يجعل الالهة والالهات الساكنين في هذه المعابد يهربون مثل الطيور ويذهبون الى فوق الى السماء (Frankfort,1965,p.268 ) ، وعندما تترك الالهة اماكنها التي تحطمت فان هذا يعني ان عالم الانسان قد تداعى خاصة عندما يصور الشاعر ان المعابد قد تحطمت ومن الصعب العيش فيها وهذا يعني فقدان كل الاحتمالات ، كل هذا دفع الالهة الى نصب قيثاراتها على خرائب ارض معابدها وتبدا استذكار الايام الماضية وهي ترثي دمار المعبد والمدينة من قبل عدو غير معروف ، المعبد قد ذل ّ والعبادة توقفت واصبح مهجورا (Jacobsen,1987,p. 447-451 ) :
لقد دمر ! وهي تقضي النهار بالبكاء
E – kur ، المبني بالاجر ، بيتي المقدس
عظيمي .. المعبد E . namtila
مدينتي سبار ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
المعبد E . babbar ، E - di - ku – kalama
مدينتي بابل ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
E-sag-ila المبني بالاجر ، بيتي المقدس
مدينتي بورسيبا ، المبنية بالاجر
E – zida المبني بالاجر ، المعبد E-mah-tila
E-temen-an-ki المبني بالاجر ، المعبد E-dara-ana
مدينتي الوركاء ، المبنية بالاجر ، بيتي الجيد
E-ana المبنية بالاجر ، معبدي E-gipar-imin
______________
رفاقي الذي ليس اكثر ...
ولدي العظيم
رئيستي العظيمة للدير
مسكني المبني جيدا
جوهرتي suba
______________
آه بيتي الذي واقف كالسيد
آه بيتي الذي جالس كالملكة
بيتي الذي كان روح الامة في سومر
الذي كان روح البلاد الاجنبية
الذي كان مزدحما مثل حضيرة الماشية ، مثل زريبة الاغنام
بيتي ، بني لاجلي في الحلم
مدينتي ، بنيت لاجلي في الحلم
معبدي abzu المتواضع
الذي دمره العدو
البيت الذي اذله العدو
المدينة والبيت الذي عالجهما العدو بغباء
بيتي الذي بني جيدا ، والارض التي بنيت جيدا
بيتي اصبح مدمرا ، والارض اصبحت مدمرة
_____________
العدو نقل بالقوة زوج البيت الوسيم اسيرا
العدو نقل بالقوة ابن البيت الوسيم اسيرا
انها مهرجانات عظيمة ، لم تنجز بشكل لائق
انها .. انا .. التي لاتقدر بثمن ، ختمت في البيت
انها .. انا .. تركت في الزاوية
عبادتها توقفت ، شفاعتها تبدلت
شفاعتها للبيت الجيد تبدلت الى (آلهة) اجنبية
الان البيت الجيد له اسم
... وانا اهيم بلا هدف كريه ، انه انقلب الى مدينة اشباح
_____________
اهملوا اغلاق بابي المقدس ، وانا اهيم بلا هدف
بسبب قدري ، انا لااستطيع النوم ، انا لااستطيع ان اهجع
انا اتجول ، انا لااستطيع النوم
مثلما انا وقفت
اتى اليوم الى نهايته
القمر الشاب غرب ، المدينة تلاشت ودمرت
تلاشى كل الذين كانوا يسكنوها
المدينة تاسست بالغضب
المدينة التي لم تبارك
المدينة التي توعدها انليل
المدينة التي لم يعتني بها السيد
حيث نظر اليه آن شزرا
المدينة بنيت تحت قدر الشر
المدينة المبتلية بالسلاح
المدينة التي سوف لايمرح عند زاويتها
المدينة التي سوف لايمرح شبابها
المدينة دمرت بالمعركة
________________
بكت البقرة خارجا ، اضطجعت هناك
المراة المقدسة (للاله) آن ، انانا صرخت واضطجعت هناك
السماء تهتز ، ملكة E.gipar صرخت واضطجعت هناك
الارض مبتلية ، ملكة E-an-ki صرخت واضطجعت هماك
ذلك العدو دخل محل سكني باحذيته
ذلك العدو وضع يداه الغير مغسولتان علي
وضع يداه علي ... واخافني
ذلك العدو وضع يداه علي ، لقد قتلني بالخوف
انا كنت مرعوبة ، هو لم يخاف مني
مزق ثوبي من على جسدي ، البسه لزوجته
ذلك العدو قطع عقدي اللازوردي ، علقها على ابنته
في بيتي اخافني ، في بنائي المسور اخافني
مثل حمامة خائفة ، قضيت وقتي على خشبة السقف
مثل خفاش مجروح ، وضعت كلاجيء في شق
جعلني اطير هنا وهناك ، مثل الطير في بيتي الخاص
جعلني اطير هنا وهناك ، مثل الطير في مدينتي الخاصة
_______________
كيف اقول لبيتي ، انت ليس بيتي
كيف اقول لمدينتي ، انت ليست مدينتي
كيف اقول لمسكني ، انت ليس مسكني
انا قلت ، سوف لن ادخلك ثانية ، ولكن سحره يلتهمني
انا قلت سوف لن اذهب هناك ، ولكن سعادته غلبتني
كيف استطعت ان تخربها ، كيف استطعت ان تدمرها ، كيف قدرت لك نفسك ان تدمرها
سيدتي كيف استطعت ان تدمري مسكنك ، كيف استطعت ان تذليها
واحسرتاه .. انا اجول حولهم لكن لم اصبح تعبا
___________________
البقرة تندب بحزن في مرعاها الصحراوي
المراة المقدسة (للاله) آن تنوح بحزن في مرعاها الصحراوي
ملكة الوركاء تنوح بحزن في مرعاها الصحراوي
المدينة بقدرها المولم ، لاتستطيع ان تكون فرحة
المدينة بقدرها الذابل ، لاتستطيع ان تكون فرحة
انت تبكين سيدتي بصوت حزين تنوحين
آه ... انا عبدة لهم ، من يسافر من الجنوب ، انا الخاضعة للجبال
آه .. انا عبدة لهم ، من يسافر اسفل الشمال ، انا الخاضعة للجبال
النافذة التي نظرت منها تحطمت ، حماماتها طارت بعيدا
هجرت الحمامات حافة النوافذ ، اين طاروا ؟
طيورها هجرت اعشاشها ، اين اخذوهم ؟
شعبها هجر محل سكناه ، اين ذهبوا ؟
دعهم يقولون الصلاة بالنهار ، ويقدمون الذبائح في الليل
سيكون نواح في الصلاة بالنهار
دع الليل يكون مقضيا بالصلاة
انانا ، لتكن هناك صلاة بالنهار ( Black,1985,p.33-40 )
التعليق على النص :
ان رثاء (بالاك) الموجه الى معبد E-tur-kalamma معبد الالهة عشتار في بابل الذي كان
موجودا خلال حكم ابل – سين 1830 – 1813 ق.م وهو يشير كذلك الى التمير (التاريخي)
الفعلي لمعابد معينة ومدن جاء ذكرهم في المقطع الاول من النص (ستة مدن و16 معبدا ) . فقد ذكرت العاصمة بابل اشهر مدن العصر البابلي القديم ، وذكرت سبار (ابو حبة) وكذلك بورسيبا (برس نمرود) قرب مدينة بابل ، وكذلك جاء ذكر الوركاء (اوروك) اكبر المدن السومرية في القسم الجنوبي من العراق . وياتي ذكر المعابد التي دمرت تباعا وهي ( معبد ايكور ، معبد الاله انليل في نفر ، ومعبد نامتيلا الحرم المقدس للاله مردوخ في بابل ، ومعبد اي ببار معبد الاله شمش / اوتو في لارسا ، ومعب دي كا كالاما ، معبد الاله شمش في بابل ، ومعبد ايساكيلا معبد الالهة عشتار في بابل ، وايزيدا معبد الاله مردوخ في بورسيبا ، ومعبد اي ماخ تيلا الخاص بالاله مردوخ في ايساكيلا في بابل ، و اي تيمن انكي زقورة الاله مردوخ في بابل و اي دارو انا قدس الاقداس للالهة زربانيتم زوجة الاله مردوخ في ايساكيلا بابل ، و اي كيبار ايمن زقورة الالهة عشتار في الوركاء ) ، المقطع الشعري التالي يشكل مناجاة للنفس تقوم بها الالهة من حيث انها ترثي دمار المعبد والمدينة من قبل عدو غير معروف ، فقد ذل المعبد وتوقفت العبادة واصبح هذا البناء مهجورا ، المقطع اللاحق هو حكاية قصيدة من الشعر الغنائي حيث استعمل المجاز وهو شيء مالوف في ادب الرثاء ، الالهة مهتاجة مثل البقرة وهي توصف كيف ان العدو دنس هذا المكان المقدس ودنسها هي شخصيا وكيف جردها من كل شيء واستاثر هو به وهي خائفة ومرعوبة مثل طير التجأ الى شق دمر عشه فهو يلتجأ الى شق في جدار او يطير من مكان الى آخر ، المقطع الاخير يحتوي على ابتهال طويل ، مدن ومعابد عديدة دمرت بالكامل فبكتهم الالهة انانا في رثاء صعب وضمني ، وحتى الصلاة كانت اشبه بالنواح .
طقوس الحزن في بيت النواح :
انبثقت فكرة الملك البديل التي اصبحت من التقاليد الملكية في العراق القديم من اجل المحافظة على حياة الملك الاصيل وحكمه من كل سوء ، اذ يتم تنصيب هذا الملك ما يقارب مائة يوم ، ويمنح جميع الصلاحيات ومن ثم يقتل الملك البديل ويدفن مع زوجته بمراسيم ضخمة ويسترد الملك الاصيل عرشه بسلام (ساكس 1979 ص416 ) .
بعد ذلك يعرض جثمانهما امام الناس بصورة لائقة ويدفنان في قبر ويعلن الحداد (Lambert,1968,p.109-112 ) ويقام النواح عليهما في مكان يدعى (بيت النواح ) كما جاء في احد النصوص المسمارية التي تصف طقوس الحزن على الملك البديل حيث نقرا ما نصه ( الملابس البيضاء سوف يلبسها سيدي الملك ، يومان كافيان ، في الشهلر ، وسوف يستانف سيدي الملك حياته الطبيعية في اليوم الثاني والعشرين ، كما سيعلم سيدي الملك ان هناك – بيت النواح E – ta- dir – ti ) ( Parpola,1993, p. 187 ) . وقد ورد المصطلح tadirtu في المعاجم الاكدية بمعنى – المزاج الكئيب او المحزن والذي يبدو انه يتناسب مع الحدث (CDA, p. 393 ) . وفي نص آخر يخاطب المدعو (مردوخ – شاكن – شومي ) الملك فيما يخص طقوس الحزن على الملك البديل ما نصه ( دع الملك سيدي يلبس ملابس بيضاء في اليوم العشرين ، ويطلب غذاء على المنضدة اللامعة ، وكما يعلم سيدي الملك هناك بيت النواح او الحزن ) (Parpola, p.187 ) .
النواح (البكاء) على الاماكن المقدسة :
ان بيت النواح او بيت الرثاء الذي ورد ذكره في النصوص الادبية في حضارة بلاد الرافدين هو المكان الذي كانت تقام به طقوس حزينة في ايام محددة من الشهر او بعد الانتهاء من مهمة الملك البديل او خلال مراثي الحزن الشعائرية التي كان يقوم بانشادها كاهن من صنف خاص على انغام آلة موسيقية ، وهي تحكي قصة دمار المعبد او المدينة من قبل الاعداء . وان المقصود ببيت النواح هو ( المعبد ) ، ذلك المكان الذي يربط العلاقة الغريبة بين الالهة والملك والالهة والناس من خلال طقوس اقامة المراثي وارتداء اثواب خاصة بالنواح والندب لتهدئة الغضب الالهي او التخفيف منه .
ان ما يدفع الانسان الى البكاء (CDA, p. 36 ) baku ينم عن الكثير من شخصيته ، فالطفل يبكي طلبا للغذاء ، والولد يبكي عند فقد شيئا يحبه ، ويبكي الكبار في مواجهة الموت والصدمات ، ولعل من اكبر الصدمات التي واجهها الانسان في بلاد الرافدين هو التدمير الذي كان يصيب المعبد العراقي القديم ، سواء كانت الاضرار التي تصيب ابنية المعبد بسبب الظواهر الطبيعية كالامطار والرطوبة التي تودي اللى الانهيار ويصبح غير ممكن اعادته بواسطة الترميم ، او عندما تضرب الصواعق احيانا قمة المعبد وتودي الى اشعال النار فيه ومن ثم تدميره او بوساطة الحريق المتعمد فضلا عن الحروب واجتياح الغزاة للمدن وما يرافقه من عمليات تدمير للمعابد ، كل هذه الامور تجعل الالهة والالهات الساكنين في المعابد يهربون مثل الطيور ويذهبون الى فوق الى السماء (حسب تعبير العراقيين القدماء ) (Frankfort,1965,p.288 ) . وعندما تترك الالهة اماكنها التي تحطمت فان هذا يعني ان عالم الانسان قد تداعى خاصة عندما يصور الشاعر ان المعابد اصبحت اكواخا كحظائر الاغنام وزرائب الماشية حيث من الصعب العيش فيها ، وان مغادرة الالهة مدنها ومعابدها بسبب التخريب الذي حدث بوساطة الاعداء والغزاة في كل سومر ، اعتبر هذا الامر بالنسبة للسامع القديم عالمه الذي تداعى ، فعندما تترك الالهة الاماكن التي تحطمت يعني فقدان كل الاحتمالات ، وكل هذا دفع على سبيل المثال الالهة (ننكال) الى نصب قيثارتها على خرائب ارض معبدها وتبدا باعادة استذكار الايام الماضية (Jacobsen , 1987 , p. 447-451 ) .
وقد ذكرت بعض النصوص المسماريةحول احتفال البكاء الكثير (ezen) IR.GU.LA او عيد البكاء الكثير والتجوال في المدينة (ezen) IR.GU.LA.URU –nigin-na ،ويبدوانهذا العيد كانله ارتباط باحتفالات عيد اكيتو الذي يصادف في فترة الخريف خلال العصر البابلي القديم ، عندما كان الاله مردوخ يختفي لمدةيوم او يومين من ايام عيد راس السنةالبابلية(اكيتو) في موضع يشار اليه باسم جبل (خرشانو) وهومن اسماء العالم السفلي حيث يصاب الاله مردوخ بجروح اثناء جلبهالىالحجز، وفي اثناء غيابه ياخذ الناس بندبه والبحث عنه بلهفة وجزع ويقوم ابنه الاله نابو بالبحث عنه حيث يصيب المدينةحالةمن الفوضى والارتباك يتقاتل الناس خلالها فيما بينهم (حنون 2005 ص157 ) . ويبين هذا النص ان احتفالات راس السنة البابلية كانت تحتوي في فقراتها على تمثيلية اخراج الاله نابو لوالده الاله مردوخ من جبل العالم الاسفل ، وان اليوم الذي تجري فيه هذه التمثيلية يكون يوماعصيبا على السكاناذ يحزن فيه الناس ويتضاربون فيما بينهم حتى تسيل دمائهم مثلما سال دم الالهمردوخ عندما اخذ الى العالم الاسفل حيث قامت عندها سيدة بابل (زوجة الاله مردوخ – صربانيتم ) التي كانت ترتدي في ظهرها الصوف الاسود وعلى صدرها صوف ملون ومسحت بيديها الدم السائل من قلبه ، وبعد ان يتحرر الالهمردوخ من سجنه ويعود الى مدينة بابل تعم الفرحة بعودته وتقام الاحتفالات وتبدأ تلاوة قصةالخليقة(النعيمي ،راجحة 1976 ص112-114 ) .
الاصالة والتاثر :
يمتاز ادب حضارة بلاد الرافدين باهميته الخاصة في تاريخ تطور الحضارات البشرية والفكر الانساني من خلال التاثيرات التي خلفها في اداب الحضارات الاخرى (باقر 1976 ص39-40 ) ، ويتجلى هذا التاثير بشكل واضح في معتقدات العبرانيين التي ترجع الى اصول سومرية وبابلية وصلت اليهم من خلال الصلات التجارية والسياسية والحملات العسكرية ، واهم من ذلك كله من خلال وجود العبرانيين انفسهم في بابل اثناء التهجير البابلي الذي حدث مرتين خلال حكم الملك نبوخذنصر الثاني 605-562 ق.م (علي ، فاضل 1989 ص319 ) حيث اكتشفوا في بابل افكار الحكمة في الوضع البشري فكانوا على صلة مباشرة بفكر وممارسات دينية وثقافية كانت منتشرة انتشارا واسعا في مناطق الشرق الادنى القديم .
البكاء على حائط المبكى :
ليس هناك ادنى شك بان مفهوم المراثي التاريخية الخاصة بمراثي المدن ومناحاتها بكل محتواها تعود الى فكر عراقي قديم عرضه لنا الادباء الرواد لبلاد الرافدين ، وان اليهود المعبرين عن الرثاء بالنواح على الجدار الغربي من هيكل سليمان – المعبد المدمر (حائط المبكى) يحملون تقليدا بدأ في سومر قبل اكثر من اربعة آلاف سنة حيث كانت جدران اور ومعابدها تعبر عن تلك المراثي .( Gwaltney,1983, p. 191-192 ) .
ويعتبر داود النبي صاحب فكرة بناء هيكل ثابت للرب بدل خيمة الشهادة المتنقلة ، وقد وعد الرب داود بان يكون البناء في عهد ابنه ووريثه سليمان . اما موضع الهيكل وهندسته فقد عينه داود قبل موته ثم بدأ سليمان العمل في البناء في السنة الرابعة من حكمه واستغرق العمل سبع سنوات وستة اشهر . وارتفع البناء فوق جبل (حورية) في القدس عند بيدر (ارونة) اليبوسي بعد ان مهدت الارض وسدت الثغرات التي فيها . وشيدت الحيطان من حجارة نقلت من المحاجر المعروفة الى اليوم بمقالع سليمان (قرب باب العمود) وكان خشب السطح والابواب من الارز وخشب الارض من السرو والكل مغطى بالذهب ، وكان الهيكل يتجه الى الشرق وكان بجانب مدخله رواق وعوامبد ثم اتسع الرواق في عهد خلفاء سليمان حتى شمل جميع الجهات ، اما المذبح فكان صندوقا من الخشب الثمين مربع الحجم مغطى بالنحاس وكانت النار تشتعل على راسه والى جانبها وضعت اوعية الغسيل من النحاس ليتطهر بها الكهنة والذبائح . وقد حافظ هيكل سليمان على عظمته مدة اربع قرون وربع منذ حوالي 968 ق.م الى ان هاجم البابليون القدس واستولوا على ما في الهيكل من ثروة سنة 587 ق.م (قاموس الكتاب المقدس 2000 ص11012-1014 ) .
وتعرف الموسوعة اليهودية (الحائط الغربي) الذي يسمى بالعبرية (كوتيل همعرافي ) بانه جزء من جدار الهيكل الذي ظل معطلا منذ تدميره الثاني في العام 70 م وانه اضحى اكثر الاماكن قدسية في العادات والشعائر اليهودية بفعل قربه من جدار الهيكل ومن مقدسات جبل الهيكل ، وان هذا الجزء خصص للبكاء على انهيارلا المعبد اليهودي وعلى منفى شعب اسرائيل وان اهميته تكمن في كونه يشكل شمعة تضاء من اجل احياء الموروث الديني اليهودي في القرن العشرين ويوجج ذكريات المجد الاسرائيلي القديم ويبعث الامل في استعادته .
وقد اعتاد اليهود على مدى عدة قرون الوقوف امام الحائط وابداء الاعجاب به وباتجاهاته المختلفة ولاسيما الكتل الحجرية السفلى التي ترتفع الواحدة منها نحو 1 م وبطول 30/3م وبوزن يزيد على 100 طن ، وان الصلوات الاسرائيلية القديمة منذ اخماد ثورة (بركوخفا) ضد الرومان عام 135 م موجهة للجزء المدمر من المعبد . ومن الجدير بالذكر ان جميع بقايا المعبد قد محيت تماما عبر الزمن وان جهة العبادة لم تكن واضحة بالنسبة لليهود ولم يكن واضحا ما هو المكان المخصص من الحائط على وجه الدقة لاداء شعائر العبادة عليه ، ويعتبر الجزء المجاور للبوابة الغربية هو الجزء الاكثر قدسية من الحائط اذ انه لم يتعرض للهدم كباقي اجزاء الحائط الاخرى مما يضفي عليه صفة القداسة لانه غير قابل للهدم حسب اعتقاد اليهود (معلومات من الانترنيت) .
المصادر :
- اسماعيل ، خالد سالم ، الاشهر اصولها وتسمياتها في حضارة وادي الرافدين واثرها على البلدان المجاورة ، بحث مقدم الى الندوة العلمية لمهرجان بابل الدولي الحادي عشر ، بغداد 1999 .
- الاسود ، حكمت بشير ، ادب الرثاء في بلاد الرافدين في ضوء المصادر المسمارية ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة الموصل 2002 .
- اوبنهايم ، ليو ، بلاد ما بين النهرين ، ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق ، بغداد 1981 .
- باقر ، طه ، مقدمة في ادب العراق القديم ، بغداد 1976 .
- حسين ، ليث مجيد ، الكاهن في العصر البابلي القديم ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد 1991 .
- حنون ، نائل ، المدافن والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة ، ج2 دمشق 2006 .
- حون ، نائل ، الحياةوالموت في حضارةبلاد الرافدين القديمة- دمشق 2005 .
- رشيد ، صبحي انور ، تاريخ الالات الموسيقية في العراق القديم ، بيروت 1970 .
- ساكس ، هاري ، عظمة بابل ، ترجمة وتعليق د. عامر سليمان ، الموصل 1979 .
- علي ، فاضل عبد الواحد ، من الواح سومر الى التوراة ، بغداد 1979 .
- قاموس الكتاب المقدس ، تاليف نخبة من الباحثين ، ط 13 ، بيروت 2000 .
- كريمر ، صموئيل نوح ، السومريون ، ترجمة د. فيصل الوائلي ، الكويت 1981 .
- النعيمي ، راجحة خضير ، الاعياد في بلاد الرافدين ، رسالةماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد 1976 .
- Black, J ; Eme – Sal cult song and prayers, AULA, Orientalis, Vol. IX,1991 .
- Black,J; A-se-er Gi6 – ta, A Balag of Inana , AsJ, 7 (1985) .
- Cohen,M.E; Balag-compositions , Sumerian lamentation liturgies of the second and first Millenium B.C , (Sorces of the Ancient Near East ) , Vol. I, 1974 .
- Dangin,T; Rituals Accadians, Paris 1921 .
- Frankfort,H; Kingship and gods, Chicago,1965 .
- George,A; Four Temple ritual from Babylon,IN, Wisdom, Gods and Literature, Eisenbrauns, 2000 .
- George,A; House most high , Eisenbrauns,1993 .
- Gwaltney ,W.C.JR, The Biblical Bock of lamentation , In the context of new Eastern lament literature. In . Scripture in context, II, Edited by , W.W. Hallow, USA,1983.
- Hallow,W.W; Lamentation and prayer in Sumer and Akkad , In , Civilization of the ancient Near East, by , J.M . Sasson , Vol . III , Newyourk, 1995 .
- Jacobsen,Th; The Harp that once, London,1987 .
- Lambert,W.G; Apart of the ritual of the substitute king, AFO,, Band 19 (1968) .
- Langdon,S; Calander of liturgies and prayer (AJSL), 42 ( 1925-26).
- 13 -
- Parpola,S; Letters from Assyrian and Babylonian scholars, Helsinki, 1993 .
المختصرات :
- AFO : Archiv fur Orientforschung .
- AJSL : American Journal of Semitic Languages and Lituratures .
- ASJ : Acta Sumeralogical (Japan) .
- CDA : Jermy Black . et.al. Aconcise Dictionary of Akkadian , Vol. 5 , Wiesbaden, 2000 .
- MDA : Manuel D , Epigraphic Akkadianne .
Comments powered by CComment