

أدناه شهادة بحق أ. د. فاضل عبد الواحد علي بقلم زميله د. بهنام ابو الصوف ، مع تقديم لمؤلفاته و روابط لتنزيل المتوفر منها
عالم السومريات العراقي د. فاضل عبد الواحد علي
بقلم بهنام ابو الصوف - عمان 2010
التقيت د. فاضل عبد الواحد علي قبل منتصف الخمسينات بقليل، لما جاء طالبا في قسم الآثار والحضارة، الذي تأسس في خريف عام 1951 في كلية الآداب والعلوم (كما كانت تدعى آنذاك). وكنت أنا وزملائي الأثني عشر، طلبة الدفعة الأولى، في هذا القسم، مادة لاهتمام القادمين الجدد يتسابقون للتعرف إلينا، والتزود من خبرتنا وكان الطالب فاضل القادم من محافظة الأنبار أكثرهم اهتماما وجدية في الاستفسار وأكتساب المعرفة، وقد شدّ أنتباهي منذ الأسابيع الأولى للسنة الدراسية بمواطنيه التامة على حضور المحاضرات وعدم التخلف عن أي منها، ثم جلوسه الدائم في مكتبة الكلية في ساعات الفراغ وبعد انقضاء اليوم الدراسي.
تخرجنا نحن طلبة الدفعة الأولى في الآثار، في مطلع صيف عام 1955، وقد اختير المتفوقون منا للانضمام إلى دائرة الآثار. وبعد فترة من الزمن أرسل عدد منا إلى الخارج لإكمال دراسته العليا في ميادين الآثار والحضارة ولغات العراق القديم . ومرّت السنون وذات يوم كنتُ ذاهباً بمهمة إلى كلية الآداب التقيت في مدخلها بفاضل عبد الواحد يحمل حقيبة أستاذ ويدلف إلى فناء الكلية، فرحتُ به وعانقئه، وأخبرني أنه قادم لتوّه من الخارج حيث أنهى دراسته في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية ونال درجة الدكتوراه في موضوع السومرين وآدابهم مع أستاذه الشهير في هذا الميدان صموئيل نوح كريمر.
لم يكتف الدكتور فاضل عبد الواحد علي بالدرجة العلمية الرفيعة، وعمله الثابت أستاذاً جامعياً ليركن إلى الراحة والاسترخاء، بل أنكبّ على موضوع تخصصه، اللغة السومرية وآدابها، بما فيها الملاحم والأساطير، يقرأ ويمحص، أو ينكب على دراسة نصوص جديدة في محفوظات المتحف العراقي واللغة السومرية وبالخط المسماري، فيضيف سطراً هنا وآخر هناك ليغني مالدينا من معارف عن آداب السومريين ويزيد عليها، وينشر هذا كله في مجلة سومر المتخصصة، أو في مجلة كلية الآداب الجامعية. ثم يتحول مؤلفات أستاذه كريمر العديد من السومريين بين حضارتهم ومعارفهم وآدابهم، ينهل منها ويهضم أبرز ما أستجد فيها. ثم يبدأ هو نفسه بعد أن أشتد عوده وأغنى مخزونه في هذا الميدان في قراءة الأصل السومري والنصوص المسمارية واستيعاب نتاجات أستاذه وغيرها من نتاجات أساتذة السومريات الآخرين، أمثال جاكبس(من جامعة شيكاغو) وملكنشتاين (من جامعة هايدلبرج في ألمانيا) وكادر من المتحف البريطاني وأخيراً وليس أخراً المرحوم طه باقر، أستاذنا العلامة الفاضل الرائد الأول في حضارة العراق وحضارات الشرق القديم واللغتين السومرية والأكدية وفرعيها البابلية والآشورية فبدأ عندئذ يصيغ أفكاره ويضعها بأسلوب تاريخي محبب أعرف به منذ البداية ولا يزال، فأخذت أبحاثه ومقالاته تترى في مجلات سومر وآفاق عربية والأفلام والمورد والمجمع العلمي العراقي، وبين النهرين وغيرها. ثم يسهم في عقد الثمانينات من القرن المنصرم، مع عدد من زملائه الآثاريين والمؤرخين، في رفد الموسوعات التاريخية التي أعدت لها وأشرفت على أخراجها لجنة أعادة كتابه التاريخ ووزارة الثقافة والإعلام العراقية، بنتاجه. فكان أبرزها العراق في التاريخ وحضارة العراق بثلاثة عشر جزءاً. وشارك في نشاطات جامعة بغداد في التأليف التدريسي، وحده أو مع زميل أو أكثر من زملاء الجامعة، وكانت كلها بمادتها وأفكارها، تُرقى إلى المستوى الأكاديمي المتميز. ولأجل هذا كله نال الترقيات العلمية الجامعية وبوقت مبكر من حياته التدريسية. كما نال عدداً آخر من التكريم قلماً يحظى به أستاذ في سنه.
ومع كل ما نشره من بحوث ومقالات، أو ما ألفه من كتب أو ما أسهم به من مؤلفات، سأقف عند أربعة منها، لتميزها ولما جاء ما أسهم به من مؤلفات، سأقف عند أربعة منها، لتميزها ولما جاء فيها من آراء وأفكار عن حضارة وأدب وفلسفة وحكمة وعقيدة دينية منذ العراقيين القدماء في أزهى عصورهم الحضارية،وبالأخص ما يلقي منها بعض الضوء على ديانة العبريين وفلسفتهم، كما وردت في عدد من أسفار العهد القديم، بضمنها سفر التكوين نفسه.
أولا: عشتار ومأساة تموز ( أضغط للتنزيل )
وهو أول هذه المؤلفات (بحسب تواريخ نشرها) والكتاب من منشورات وزارة الإعلام لعام 1973، في سلسلة الكتب الحديثة إدارة الحرية، مطبعة الجمهورية، عدد صفحاته 242 صفحة.يضم الكتاب ستة فصول، مع ملحق لترجمة النسخة السومرية الأسطورة نزول إنانا (عشتار) إلى العالم السفلي. يبحث الفصل الأول في طبيعة إلهة الخصب في معتقدات العراق القديم بدءاً بالعصر الحجري الحديث، ومروراً بالزمن السومري ثم البابلي. وينتهي الفصل بالكلام عن دموزي(تموز) أكان ملكاً ام إلهاً؟ بينما يناقش الفصل الثاني طبيعة الإلهة إنانا(عشتار) عبر العصور ومفهوم الخصب ذاكراً عدداً من صفاتها وعلاقتها بجلجامش وسرجون الأكدي، وحلول الكاهنة العظمى مكانها في ممارسات الزواج المقدس السنوية. كما خصص الفصل الثالث لمغامرات إنانا(عشتار) إلهة الحب والجنس مع الراعي والفلاح، وزواجها من الراعي دموزي(تموز) ويحكى الفصل الرابع أسطورة نزول أنانا(عشتار) إلى العالم السفلي، وخروجها شريطة أن يحل مكانها بديل في هذا العالم ثم يتطرق الفصل إلى اختيار زوجها دموزي ليحل مكانها في العالم السفلي، وملاحقة شياطين هذا العالم له والقبض عليه وأخذه إلى عالم الأموات ويضم هذا الفصل (الرابع) النص السومري الكامل للأسطورة الآنف ذكرها. وفي الفصل الخامس وصف طريق الأعراس تموز وأعياد الزواج المقدس ومدلولاته العقائدية، وبعض الآراء عن تموز وبعثة وأثر ذلك في طقوس الزواج المقدس، وتكررها سنويا في عدد من أمهات المدن السومرية، والتي تتحول تدريجياً إلى احتفالات سنوية تعرف بعدئذ باحتفالات رأس السنة البابلية (أكيتو) ينهي المؤلف كتابه في خاتمة الفصل السادس، مشيراً إلى أن مآساة تموز والحزن الجماعي للشعوب والمناحات المقامة عليه عند عدد من شعوب الشرق الأدنى القديم، قد تأثرت جميعها بمعتقدات العراق القديم في البكاء على تموز وانتظار بعثه وقيامته من بين الأموات عند حلول الربيع وتجدد الطبيعة وأزدهارها .
يبقى كتاب عشتار ومآساة تموز للدكتور فاضل عبد الواحد، مرجعاً قيماً في الدراسات العقائدية والدينية لأقوام العالم القديم، بما فيها بحر أيجه واليونان. وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على وضعه فإنه في اعتقادنا سيبقى بدون الحاجة إلى أي تغيير أو إضافة في متنه أو في منطلقاته الأساسية مهما تعددت طبعاته، وأبرز ما انتهى إليه المؤلف في سفره أقيم هذا هو الأثر الواضح الذي تركته أغاني الزواج المقدس السومرية والبابلية في سفر نشيد الإنشاد لسليمان في العهد القديم، وشيوعت تقاليد البكاء والحزن الجماعي على تموز لدى العبريين مشيراً إلى واقعة دخول مزقيال، إلى بيت الرب(المعبد) ومشاهدته نسوة يبكين تموز. كما يذهب إلى إيضاح التأثيرات التموزية في بعض الصفات التي تنسب إلى السيد المسيح إذا يقارن حاله المعاناة والعذاب التي تعرض لها تموز لما داهمته شياطين العالم السفلي تريد قيادته إلى ذلك العالم، وبين المصورة التي ينقلها العهد الجديد (أنجيل متى 26/47 وما بعده) عندما جاء يهوذا ومعه جمع كثير بالعصي والسيوف والقوا القبض على السيد المسيح. ويقارن أيضاً بين خيانة إنانا (عشتار) زوجها وحبيبها تموز وتسليمه إلى شياطين العالم السفلي، وخيانة يهوذا، أحد تلاميذ السيد المسيح المقربين إليه، ثم يؤكد أن ندم إنانا(عشتار) وبكاءها وأقامتها مواكب الحزن والمناحة على زوجها وحبيبها الذي أخذ إلى العالم السفلي قريب الشبه إلى ندم يهوذا وشنقه نفسه بعدما تبين له عظم الجرم الذي أقترفه بحق سيّده ومعلّمه.
ثانياً: الطوفان ( أضغط للتنزيل )
الكتاب الثاني بعنوان ، وقد طُبع على نفقة جامعة بغداد في عام 1975 في سلسلة المراجع المسمارية، وعدد صفحاته 224 صفحة يشير المؤلف في مقدمته للكتاب بان أختياره هذا الموضوع يكمن في حرصه على الكشف عن جانب مهم من الأدب العراقي القديم، أبدع فيه رجال الفكرة والفلسفة العراقيون،وليضع بين يدي القارئ العربي مرجعاً ميسراً لهذه الموضوع الذي أحتل حيزاً كبيراً في معتقدات معظم شعوب الأرض كما يشير أيضاً إلى أن قصة الطوفان كانت واحدة من الروائع التي وضعها، الكتّاب السومريون أصلاً، والتي أضاف إليها من بعدهم الكتّاب البابليون ثم الأشوريون آفاقاً وأبعاداً جديدة. وسرعان ما انتشرت في أنحاء الشرق الأدبي القديم، كما تركت أثراً واضحاً في معتقدات بعض شعوب المنطقة وفي مقدمتهم العبرانيون. وهو يؤكد ان قصة الطوفان لا تستمد أهميتها من كونها تسجيلاً وافياً وتفصيلياً عن هذه الكارثة المروعة التي تعرضت لها البشرية في قديم الزمان، بل لأنها تحوي أيضاً، وخصوصاً النسخة البابلية، تفاصيل دقيقة وفي غاية الأهمية عن معتقدات السومريين والبابليين في خلق الإنسان.
يحوي الكتاب ثلاثة فصول وملحقاً يضم نصوصاً كاملة لقصص الطوفان المدونة بالخط المسماري وأبرزها :
قصة الطوفان السومرية، وقصة الطوفان البابلية(اتزخاسيس)، وقصة الطوفان في ملحمة جلجامش، والطوفان في العهد القديم (سفر التكوين- الإصحاح السادس حتى السادس)، كما يضم جدولين مهمين يعرفان في الدراسات المسمارية بأسماء الملوك، الجدول الأول يضم ملوك ما قبل قصة حدث الطوفان السومرية، والجدول الثاني يذكر ملوك ما بعد الطوفان وحتى عصر جلجامش(خامس ملوك سلالة الوركاء الأولى بحدود عام 2700ق.م).
يشرح الفصل الأول للكتاب تعاريف وبدايات أولى عن المدلول اللغوي للطوفان في السومرية والبابلية، كما يقدم سرداً كاملاً لقصص الطوفان في السومرية والبابلية في ملحمة جلجاش، وعن أبطالها من الآلهة والبشر، ويقدم الفصل الثاني احداثاً وقعت قبل الطوفان، ودور الآلهة فيها وخلق البشر وتكاثرهم مما أضجر الإلهة من ضوضائهم، فقررت أحداث الطوفان للقضاء على الجنس البشري، ويحكى الفصل الثالث (الذي عنوانه ثم جاء الطوفان) قرار الألهة بإحداث الطوفان، وإفشاء سره من قبل أحد الألهة الخيرّة (أيا) لرجل الطوفان أوتو ناشتم(نوح التوراني)، ثم بناء الفلك وإنقاذ البشر والعالم من تلك الكارثة. ويختتم المؤلف هذا الفصل باستنتاجك وتعليقات في غاية الأهمية بخصوص ماهيته الطوفان وحقيقته وما كشفته التنقيبات المتعاقبة في الثلث الأول من القرن العشرين عن أدلة حدوث هذا الطوفان من قبل السيّر ليونارد وولي في أور والأستاذ ستيفن لانكدن في كيش والبعثة الألمانية في الوركاء، وأخيراً البعثة الفرنسية في لكش. إلا أنه يضيف بأن أزمات حدوثه متباينة، فبينما نجد أن آثار الطمى لطوفان مدينة أور يعقب سكن عصر العُبيد(مطلع الألف الرابع قبل الميلاد)، نجد أن آثار الطوفانات أو الفيضانات الأخرى قد حدثت بعد ذلك بأكثر من خمسمائة سنة، أي في أواخر عصر الوركاء وبداية عصر فجر السلالات السومرية(أواخر الألف الرابع ومطلع الألف الثالث قبل الميلاد)، وهو يتساءل هنا عن حقيقة هذه الطوفانات، هل كانت فيضانات موسمية اعتيادية وقعت في دلتا العراق بسبب فيضان النهرين، وأحيانا بشكل أستثنائي مرعب ؟ وهو ينافس بعلمية وبمنطق آثاري أكاديمي أداء عدد من أساطين علماء الآثار في النصف الأول من القرن العشرين الذين توفروا على دراسة هذه الظاهرة البيئية ونتائجها الملموسة أمثال السيّر ماكس ملوان والسيّر ليونارد وولي، ويقارن هذا كله بما ورد في النصوص المسمارية من حوادث هذه الطوفانات، وهو يقرر بعد هذا أن الطوفان يُعد من الظواهر الطبيعية المألوفة في العراق القديم، إلا أنه يقرّ أيضاً، بما تحت يده من نصوص، أن الطوفان، بحسب النصوص المسمارية والعهد القديم، لم يكن ناتجاً عن ارتفاع مناسيب مياه الأنهار بقدر ما كان بسبب هطول الأمطار الغزيرة، وتدفق مياه العمق(أبسو) التي كان الإله نكي مسؤولاً عنها. ثم يتساءل بمشروعيته واعية، إذا كان الطوفان الذي تتحدث عنه المراجع المسمارية بصور حقيقة مألوفة في بلاد الرافدين، فلماذا جعل منه مدونو سفر التكوين حادثة كونية شملت العالم القديم بأسره؟ وهو يفسر ذلك أنطلاقاً من قصة خلق الإنسان في النص البابلي والنص التوراتي فيشير إلى أن قرار الألهة بإحداث الطوفان كان عقاباً للإنسان بسبب ضجيجة وصخبه (النص البابلي) وانتشار شره وظلمه(النص التوراتي) فكا ن لزاماً أن يتصف بالشمولية ليهلك الإنسان أينما وجد في الأرض. وهو يرى بأن الطوفان(الفيضان) السنوي كان في نظر الفرد العراقي القديم صورة لذلك الطوفان الأول، المرعب الذي أرسلته الإلهة لإبادة البشر في كل مكان في الدهور الأولى.
وفيما يتعلق بحجم الفلك وشكله، فأنه يرى وأنا أشاركه هذا الرأي، بأنها كانت تشبه زقورة عائمة بطبقاتها السبع وشكلها المكعب التي أطلق عليها الكاتب البابلي أسم منقذه الحياة. ففي سهل منبسط (مثل دلتا بلاد الرافدين) تُعتبر الأماكن المرتفعة –كالزفورات والتلول- المأوي الوحيد الذي يلجأ إليه الناس حين يداهمهم خطر الفيضان.
ثالثاً: من ألواح سومر إلى التوراة ( أضغط للتنزيل )
وهو الكتاب الثالث الذي أعجبني كثيراً وقرأته فور صدوره عام 1989(عن دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والإعلام) بـ 391 صفحة .وقد سار فاضل عبد الواحد في عنونته لهذه المؤلف على خطى أستاذة صموئيل نوح كريمر في مؤلفه (من ألواح سومر) الذي صدر بالإنكليزية في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وقد نقله إلى العربية أستاذنا المرحوم طه باقر في أواسط الخمسينيات لحساب مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، وقد قدم له عالم الآثار المصري المرحوم أحمد فخري غير أن الكتابين يختلفان عن بعضهما من حيث المحتوى فمؤلف الدكتور كريمر يناقش خمسة وعشرين ابتكاراً كان للسومريين قصب السبق فيها قبل غيرهم من سكان العالم القديم ومنهم أخذتها شعوب المنطقة في الشرق الأدنى ووادي النيل وبحر إيجه واليونان وأبرزها الكتابة والديمقراطية والتشريع والمدراس والتعليم والطب والصيدلة والرياضيات والفلك وأداب البطولة والحكمة. بينما يبحث كتاب الدكتور فاضل عبد الواحد (من ألواح سومر إلى التوراة) في عدد من الحالات نقلفها مدوّنوا التوراة عن أدب وحضارة بلاد الرافدين في قصة خلق الإنسان وجنة عدن والفردوس المفقود وقصة هابيل وقابيل وزقورة بابل وبين موسى وسرجون الأكدي في قصة المولد والنشأة ومحاربة قوى الشر وغضب الرب وإنزال الكوارث ثم العهد بين الرب والعبد والموت والعالم السفلي، البكاء على تموز وأناشيد الزواج المقدس ونشيد الإنشاد لسليمان وأخيراً أيوب البابلي. ثلاث عشرة مادة يضمها الفصل الرابع من الكتاب (الصفحات239-389) يقدّمها ويناقشها المؤلف لفاضل عبد الواحد) ببراعة العالم المدقق والفاحص الأمين، محاولاً تأكيد أثر حضارة بلاد الرافدين وفكره وفلسفته في معتقدات العبرانيين وما تبقى من الكتاب يحوي ثلاثة فصول (الصفحات 17-235) ومقدمة(الصفحات 5-7) الفصل الأول بعنوان (بناة الحضارة في بلاد الرافدين سومريون وجزريون) يصف المراحل الأولى من حياة إنسان شمالي البلاد، ومن الكهف إلى القرية، وأستطيان السهل الوسوي (الدلتا) ثم ينتقل إلى التعريف بحضارة السومرين ولغتهم وحل رموز الكتابة المسمارية. ويتوقف عند مسائل تخص أصل السومريين ومن استوطن أرض الدلتا في أقصى الجنوب قبلهم، هل هم الفراتيون الأوائل؟ ثم يناقش مصطلحات مهمة مثل سامي، أم جزري، أم عربي؟ ويحكي إسهامه مع المرحوم طه باقر في التوصل إلى هجر المصطلح التوراتي ساميين، وتوظيف بدله مصطلح الجزريين ، أي القادمين من شبه جزيرة العرب وأخيراً يتكلم عن الجزريين واللغات الجزرية وكلها مصطلحات وتسميات تاريخية كانت قد نوقشت بعناية في اجتماعات لجان إعادة كتابة التاريخ حيث تطوّرت إلى مصطلح الأقوام العربية القديمة ولغات هذه الأقوام. هذه مسائل ضمتها الفصل الأول من الكتاب. وقد حوى الفصل الثاني كثيراً من التفاصيل في حضارة العراق القديم وأصالتها وتطورها على أيدي بُنائها، ثم مجيء الأكديين والأموريين (البابليين) والآشوريين (البابليين) والآشوريين والكلديين ومنجزاتهم الحضارية وحروبهم وينهي هذا الفصل بالأدب وأصالته وملحمة جلجامش وغيرها من قصص وأساطير وملاحم العراق القديم. وأخيراً يتحدث الفصل الثالث عن أثر حضارة وأفكار ومعتقدات العراق القديم في منطقة الشرق الأدنى وبحر إيجه واليونان وطرق هذا الانتشار يدرس المؤلف فاضل عبد الواحد في هذا الفصل اعتماداً على أحدث المكتشفات، أثر نتاجات سكنة بلاد الرافدين في الأدب والعلوم والكتابة والعمارة والفنون في حضارة أقوام الشرق الأدنى القديم ووادي النيل واليونان.
رابعاً : سومر أسطورة وملحمة
وهو الكتاب الرابع والأخير للدكتور فاضل عبد الواحد علي، وقد صدر عام 1997 في دار الشؤون الثقافية العامة كسابقه وبـ 317 صفحة. وقد جمع المؤلف في هذا السفر القيم أدب العراق القديم كله، أعتماداً على آخر ما توّصل إليه البحث الآثاري من كشف عن نصوصه وترجمتها ودراستها من قبل عدد كبير من دارسي هذا الأدب وقد كان هدفه من ذلك(المقدمة صفحة 5) أن يضع بين أيدي المهتمين بالأدب العراقي القديم آخر ما أستجد في حقل النصوص الأدبية المسمارية المدوّنة باللغتين السومرية والأكدية. يضم الكتاب عداا المقدمة، عشرة فصول يحتوي بعضها على عدد من المباحث. يقدم الفصل الأول بمباحثه الأربعة، صورة واضحة عن اللغتين السومرية والأكدية(بفرعيها البابلية والآشورية) واللغتين دونتا بالخط المسماري، كما يحكي قصة حل رموز هذا الخط ومراحله وأبرز من أسهم في ذلك من علماء المسماريات في العالم. ويتطرق إلى المدارس ودورها في الحفاظ على الموروث الأدبي، ويتكلم عن الكتابة المسمارية وتطورها والطلبة والمعلمين. وعن قواعد اللغة والمعاجم،وينتهي بموضوع تدوين الأدب ودور المنشدين في نقله وحفظه وأسماء عدد من الأدباء والشعراء، ويختم ذلك كله في الكلام عن الأدب نفسه، خصائصه وأنواعه. ويتكلم في الفصل الثاني، عن الأساطير السومرية والبابلية، وخصائص كل منها وأسمائها.
كما تحدث في الفصل الثالث عن الملحمة وأنواعها إن كانت سومرية أو بابلية وبعدها توقف عند ملحمة جلجامش، مسهبّاً في أبطالها وإحداثها ووقائعها، وخصصّت الفصول من الرابع حتى العاشر للقصة الخرافية وأدب الحكمة والسخرية والرسائل والتراتيل والغزل والرثاء.
يعكس هذا السفر في أدب العراق القديم مقدرة المؤلّف وتمكنه من أركان موضوعه، فهذا هو حقل تخصصّه ومادة تحصيله الأكاديمي لأكثر من أربعين عاماً من حياته التدريسية. لقد درس فاضل عبد الواحد هذه المادة ودرّسها بجدارة واقتدار كما ترجم نصوصها وكتب ونشر في شأنها الكثير وقد كرّس حياته العلمية كلها للتفرغ لها، فجاء وضعه هذا السفر وجمعه مادته الغزيرة بسبب ما لمسه من اهتمام بملاحم وأساطير وأدب العراق القديم عموماً، فأراد أن يقدم لهم مادة ذلك الأدب لتكون ميسورة بين أيديهم ونعم ما فعل.
وفي الختام أرى لزاماً عليَّ أن أشهد أن عالم السومريات فاضل عبد الواحد علي إنه لأفضل بين علماء المسماريات (وبضمنها السومريات) ليس في بلادنا فحسب، بل في المنطقة العربية كلها، وهو خير خلف، في هذا الميدان،لأستاذنا الفاضل المرحوم العلامة طه باقر الذي لو أمد الله في عمره إلى الآن ليبقى فاضل عبد الواحد تالياً له في هذا المقام
حوار مع الدكتور فاضل عبد الواحد علي
حاوره صفاء ذياب
- هل السومريون عراقيون؟
ما زال الإهمال الكبير الذي لاقته آثارنا العراقية واضحا للعيان، وما زال الإهمال الأكبر الذي يلاقيه علماؤنا أكبر، فالعديد منهم وحتى هذه اللحظة لا يُعرف عنهم أي شيء. لأن الظروف الحالية غيبتهم بشكل جديد، ذلك لأن المسؤولين عن الثقافة العراقية الحاليين جاؤونا من خارج العراق بعد غربة طويلة، إن كانت إجبارية أو اختيارية. لهذا هم لا يعرفون سوى أنفسهم، أما مثقفو وعلماء الداخل، فمهملين حتى هذه اللحظة. أتكلم على هذا الموضوع لأنني رأيت بأم عيني ما آلت إليه صحة استاذ السومريات الكبير الدكتور فاضل عبد الواحد علي خلال العام المنصرم وحتى الآن، بسبب ما رآه من خراب حل بالمتحف العراقي. فهذا الاستاذ الذي ألّف العشرات من الكتب لتأسيس ثقافة حقيقية تعتمد على التراث السومري والبابلي العراقي، ما زال طريح الفراش بسبب عدم قدرته على السفر خارج العراق للعلاج.
ألتقيته قبل الحرب الأخيرة، ولم تتسن لي فرصة نشر هذا الحوار كاملا، وقد حاولت بعد الأحداث الأخيرة إكمال الحوار ليشمل ما آل إليه المتحف العراقي، إلا أنني فوجئت بتدهور صحته بسبب المتحف نفسه. ونحن نقدم هذا الحوار لنتعرف على هذه الشخصية الكبيرة عن كثب، من خلال مناقشته بالأطروحات التي قدمها خلال اكثر من خمسين عاما.
* لقد تحدثت كثيرا، وفي أغلب كتبك، عن المشكلة السومرية. ولدي سؤال يطرح نفسه، وهو لماذا لا يكون السومريون عراقيين بالاصل؟ على الرغم من ان اغلب الباحثين نقبوا في بلاد السند او بلوخستان التي من المفترض ان يكون السومريون قد قدموا منها، ولم يجدوا دليلا واحدا على المواطن الاصلي للسومريين في تلك المناطق؟
تكمن هذه المشكلة في أن الاساتذة الباحثين من الاجانب لم يتفقوا على منطقة معينة جاء منها السومريون، اراهم تشتتوا على الطريق. ولكن، هم يتفقون على ان ظهور الحضارة السومرية في سومر جاءت من دون مقدمات، وتعد قفزة ليس لها ماض في العراق. وهي دلالة على ان السومريين جاؤوا من خارج العراق.
* ألا نستطيع ان نقول ان نشأة الحضارة بحد ذاتها كانت بشكل تدريجي، بمعنى ان السومريين اخترعوا الكتابة في حدود(3.200-2.900 ق.م ). بعد مراحل تطورية؟
نعم، هذا هو المنطق الحضاري الذي تدعيه الفرضية، لكنهم يعتقدون ان هناك فجوة حضارية بين الشمال والجنوب، هذه الفجوة هي التي يعتقدون في زمانها حدث انتقال السومريين من خارج القطر الى داخله. اما من اين جاؤوا، فهم يختلفون.
*المشكلة يا دكتور مازالت قائمة، فقد ذكرت في كتابك (الطوفان في المراجع المسمارية) رأي بعض العلماء، بأن هناك فترة انقطاع بين استيطان السومريين وانتهاء سكان العبيد. فهل انقرض سكان العبيد فجأة؟ أو ان السومريين تعايشوا معهم ثم طغوا عليهم بعد مدة من الزمن؟
إنهم يبنون فرضيتهم على هذه النقطة بالذات، أن هناك انقطاعا حضاريا بين الشمال والجنوب، ويفكرون في ان هذا الانقطاع هو الذي جاء خلاله السومريون من الخارج، ولم يكن هناك أي انقطاع، ولكن بدايات الحضارة كانت في الشمال، ونضجها كان في الجنوب، وليس هناك ما يسمى بفجوة حضارية.
* ولكن بعض الأدلة التي يعطيها الباحثون على أن السومريين قدموا من مناطق جبلية، هو بناؤهم الزقورات كمعابد لهم..
لا يا سيدي، هذا ليس له علاقة، وهو كلام عام، ولا يوجد شيء يؤيده إطلاقاً. الزقورة بنيت بسبب الإشكال القائم، وهو عمق المياه الجوفية والفيضانات الكثيرة. ولذلك، وللتخلص من هذهِ المشكلة، خصوصاً وأن الزقورات عبارة عن مناطق عبادتهم، أي معابدهم، وهي منطقة مقدسة وينبغي أن ترفع أعلى من منسوب المياه، وإلا ضاعت كل هذهِ المقدسات في أي فيضان قادم، ولا ننسى أن بناء الزقورة كان من اللبن وهناك قشرة من الآجر، وهذهِ المواد عرضة للدمار.
* في كتابك (سومر.. أسطورة وملحمة) تقول بأن السومريين دفنوا ألواحهم قبل الطوفان؟
لم أقل أنا، هذا قول أحد المؤرخين البابليين المعروف بـ (برعوشا بيروسس). قال إنهم ذهبوا الى مدينة سبار، وقبل أن يجيئهم الطوفان، أتاهم أحدهم ليخبرهم بحدوثه، وليدفنوا (المعرفة) التي هي الألواح، فأخذوا ما لديهم من كتابات ودفنوها واستعادوها بعد انحسار الطوفان. وهذا ليس بغريب عما تفعله بعض الدول الآن، ففي انحاء كثيرة من العالم، بعض الدول تحفظ موادها العلمية، في كهوف عميقة جداً تحت الأرض من أجل ان تحميها من التلف والضياع فيما لو تعرضت الى انفجارات ذرية أو كوارث طبيعية ليست بالحسبان، وتستعيدها مرة أخرى، من هذهِ الكهوف. هذه مقارنة بين ماقاله المؤرخ البابلي بيروسس وبين ماهو موجود في الوقت الحاضر.
* هل نستنتج من ذلك، بأن أوتنابشتم أو نوح (حسب الميثولوجيا الإسلامية) كان قريباً من السومريين، أو أن الأخبار من الممكن أن تصلهم سريعاً، وهناك فرضية جديدة للأستاذ الباحث كمال الصليبي في كتابه: (التوراة جاءت من جزيرة العرب) وفي كتابه الثاني: (خفايا التوراة) تقول بأن أصل الخلق ونوح وأولاده في ما بعد كانوا أصلاً في عسير من الجزيرة العربية. وأن الطوفان حدث في منطقة عسير، وسفينة نوح رست على جبل أراراط في عسير ايضاً، فماذا تقول في رأي كهذا؟
مع احترامي للأستاذ كمال الصليبي، لكن، وجِّه نقد كثير لكتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب). ومصادرنا السومرية والبابلية واضحة، والطوفان حسب ما نعرف من النصوص السومرية والبابلية حدث في مدينة شروباك في العراق، وهي في الجنوب وأبطال معروفون أيضاً، وشخصياتهم كلها عراقية، سومرية كانت أم بابلية قديمة. فمثلاً (زيوسدرا) بطل الطوفان في القصة السومرية، اسمه سومري، ومعناه (صاحب الحياة الطويلة). للدلالة على حصوله على الخلود، وأوتنا بشتم بمعنى (وجد الحياة)، نابشتم بمعنى (النفس)، والنفس هي الحياة.
وأتراخاسس، اسمه بابلي بمعنى (المتناهي في الحكمة)، (أترا) بمعنى (المتناهي)، و(خاسس) بمعنى (الحكمة). فهؤلاء كلهم يحملون أسماء سومرية وبابلية، والمدن التي حدث فيها الطوفان سومرية وبابلية، وليس لي شأن بقول الصليبي وفرضياته عن أسماء المدن، وهذهِ مسألة أخرى وبعيدة عن الواقع.
* بالنسبة لبقاء بطل الطوفان حتى عصور متأخرة من الحضارة البابلية، بأنه الرجل الخالد، كيف تفسر ذلك؟
يقال بأن أوتنابشتم الموجود في قصة الطوفان البابلية قد أسكنته الآلهة في دلمون على ضفاف البحر، وهناك نال الخلود وجلس يتشمس ويستحم بضوء الشمس، ودلمون حسب مايتفق عليه المؤرخون هي البحرين.
* إذن، ما فكرة الخلود نفسها، فلو كان نوح هو أوتنابشتم نفسه، والمعروف نوح (حسب المصادر الاسلامية) لم يخلد، فكيف يكون بطل الطوفان خالداً؟ وهل هذهِ الفكرة حقيقية أو مجازية؟
لقد أخبرتك عن ثلاثة أسماء لبطل الطوفان، زيوسدرا، أوتنابشتم، واتراخاسس. الجانب الآخر الذي ذكرته عن الطوفان هو قصة القرآن الكريم، والقرآن ذكر أن نوحا هو بطل الطوفان. السؤال الذي يدور في ذهنك وفي ذهن أغلب الباحثين، هو: هل إن القصة المذكورة في القرآن الكريم هي ذاتها قصة أحد هؤلاء الذين ذكرتهم؟ أنا لا أدري، لكني أعرف بأن هناك طوفانا عثر عليه. وأنا اطمئنك أن في كل مناطق العالم التي لها تاريخ قديم تكاد لا تخلو من طوفان.
* في كتابك (الطوفان في المراجع المسمارية) ذكرت بأن الاستاذ ملوان قال بأن هناك طوفاناً ثانياً حدث قبل الطوفان المشهور، وقد حدث في حدود (3.500ق.م) في فترة العبيد، فهل توجد إشارات أو نصوص عن هذا الطوفان، أو هي تخمينات لاأكثر لعدم استطاعة الباحثين تحديد المدة الزمنية التي حدث فيها الطوفان المشهور؟
في فترة العبيد، ومن خلال الطبقة الغرينية، أفترض أن هناك حضارة في الجنوب، في العبيد أو في غيرها. ثم جاء الطوفان فترك هذهِ الطبقة الغرينية. ثم بعد ذلك عادت الحياة مرة ثانية، بعد أن انحسرت مياه الطوفان.
وبدأت التقديرات عن متى حدث الطوفان. وأنت تعرف بأن رواية الطوفان قد وردت في ملحمة جلجامش، وبدأت التساؤلات: لماذا وُضِع هذا اللوح في الملحمة ووظفَ في ملحمة جلجامش. ويعتقد أن السبب هو قرب الطوفان من جلجامش، أو قرب جلجامش من الطوفان.
* على الرغم من أن أكثر دارسي الملحمة يقولون بأن اللوح الحادي عشر ليس من أصل الملحمة؟
هذا صحيح، واللوح الحادي عشر ليس من أصل الملحمة، لكننا نعرف ان الملحمة ككل تتكون من أربع قصص تدور كلها حول شخصية جلجامش، وظِّفت بطريقة بارعة جداً ورائعة وأدخلت في جسد هذهِ الملحمة التي تبدأ في الوركاء، وتنتهي بعودة جلجامش إليها.. فنحن نعرف هذهِ القصص وبنية الملحمة، وقصة الطوفان وجدت لغاية، وهي إعطاء الملحمة بعداً اوسع.
* فهل إن جلجامش لم يذهب الى أوتنابشتم أساساً، ووظفت رحلته في الملحمة، أو انه ذهب فعلاً إليه؟
لا تستطيع ان تحمل الأدب الملحمي ما لا يتحمله، ونسأل هنا: هل ذهب جلجامش الى غابة الأرز، او لم يذهب؟ نعم، هو ذهب في مخيلة هذا الأديب الذي كتب الملحمة.
* في كتابك (من ألواح سومر الى التوراة) تؤكد قصة التوراة عن برج بابل، ولكننا سنعود قليلاً الى الاستاذ كمال الصليبي الذي يقول بأن شنعار لا توجد في العراق أصلاً، لكنها قلبت عن آسم مدينة (شرعن) في الطائف، من خلال دراسة ظاهرة القلب في اللغة العبرية، كذلك لم يكن هناك برج، وحتى إن وجدَ فإن الله قد منعهم من اتمامه، وتوجد في بابل زقورات وليست أبراجا، فماذا تقول في ذلك؟
البرج كان موجوداً، ولدينا قياساته، ومن ثم، ما البرج؟ البرج هو المكان المرتفع الذي ممكن ان ترى من عليه أشياء لا يمكنك ان تراها وأنت على أرض منبسطة.
* لكنه يفترض بأن الزقورات غير الأبراج تماماً..
هذا استخدام مجازي، فالتوراة قالت البرج، ثم ماذا.. البرج بمعنى الزقورة، البرج للمراقبة، وكان يمكن ان يراقبوا من يأتي ويدخل المدينة أو يخرج منها، وبرج بابل اشتهر، ومن وظيفة الزقورة هذهِ جاء المعنى الآخر وهو البرج. والروابط بين الزقورة والبرج هو الجانب الديني.
ومع احترامي للأستاذ الصليبي، أنا لا أتفق معه إطلاقاً، الآن البرج موجود، ووصلنا من العصر السلوقي، بل وجاءتنا ابعاد البرج، (91 متراً) طوله، و(99 متراً) عرضه، وطبقاته سبع، في أعلاه معبد، وحفرة البرج موجودة، لأنها نقبت ضمن آلاف التنقيبات.
* ألا تعتقد بأن قصة برج بابل التوراتية، وليست البابلية، التي هي اشبه بالخرافة اختلقت سبب اختلاف الألسن؟
حتماً إن بني اسرائيل تأثروا بالحضارة البابلية، ومدارسها الدينية كانت موجودة أيضاً، وقد درسوا في هذهِ المدارس البابلية، وقصة برج بابل في التوراة تقول أنهم رأواها بأعينهم، أما بلبلة الألسن فهذهِ مسألة أخرى.
أنا لا أدري ما الكلمة التي جاءت كمرادف، والاشتقاق اللغوي ضعيف جداً هنا، يقولون انهم سموها بابل لأن الرب بلبل الألسن، وهذا في العربية. وأنا أريد أن أعرف من أين جاء هذا الاشتقاق، بلبل ليست بابل، هذا افتراض خاطئ. وكلمة بابل مشتقة من (باب-إيل). وحتى (باب-إيل) هناك وجهات نظر أخرى عليها، لكن قطعاً ليست من بلبل. وبابل لها اشتقاقها الأكدي، وهو مقبول وعلمي.
* وفقا على هذا، ماذا تعتقد في الدين مازالوا يعتمدون التوراة ككتاب تاريخي بالدرجة الاولى، وبعد الاكتشافات الانثروبولوجية الحديثة، خصوصاً وان التوراة تحدد المدة الزمنية بين خلق آدم (الانسان الاول) وولادة المسيح بأقل من عشرة آلاف سنة. وأنت تقول بأن الانسان وجد في الكهوف منذ أكثر من (60-50) ألف سنة، وهو أيضاً بعيد عن قول مرسيا إلياد في كتابه (تاريخ الافكار والمعتقدات الدينية) بأنه قد وجدت مقابر في أورشيروكين ترقى الى أكثر من (400-500) الف سنة، في شمال العراق. وأنا أتكلم هنا على ولادة الانسان الأول بالدرجة الأولى؟
- هذه مسألة أخرى، عندما نشير الى استيطان الانسان، نقصد بهِ إنسان وادي الرافدين، أما إنسان آخر أو عمر الحياة فهذه مسألة أخرى. ومن الممكن أن ترجع بهِ الى الانثروبولوجيا أو علم الاجتماع.
* سؤالي-هنا-هو: أيمكن اعتماد التوراة ككتاب تاريخي أم لا؟
التوراة فيها أخبار تاريخية عن الطوفان وعن الملوك الآشوريين، قسم منها واقع تاريخي وقسم مجافٍ للحقيقة، وأنا أنصح كل شخص يبحث في مسائل التاريخ من خلال التوراة أن لا يكون أحادي المبدأ.
* سؤالي هذا لأن أغلب المؤرخين القدماء يعتمدون التوراة..
بل قل: الأوربيين..
* ليس الأوربيين فحسب، ولكن المؤرخين العرب القدامى أمثال الطبري والمسعودي والطبرسي وغيرهم يعتمدون أنساب التوراة من آدم وحتى ما بعد ابراهيم اعتماداً كاملاً!
ما رايك بأن التوراة جعلت العيلاميين عيلاماً وحذفت كل ما يتعلق بالكنعانيين، وعيلام ليس لها علاقة بالساميين ولا بأنسابنا، وهم اقوام هندو - أوربية، سكنوا في الجنوب الشرقي من سومر، وأخرجوا الكنعانيين من سلسلة النسب لغاية في نفس يعقوب، وجاؤوا بالعلاميين. والبلدانيون العرب، وللأسف الشديد لا يعرفون هذهِ الحقائق. والآن يوجد أكثر من خمسمائة مفردة لغوية من اللغة السومرية والبابلية تسربت الى اللغة العربية عن طريق الآراميين، لو سألت عنها البلدانيين العرب لأجابوك بأن هذهِ اعجمية وهذه، دخيلة، وهم لا يعرفون حقيقتها بسبب عدم اكتشاف الألواح المسمارية إلا في العصر الحديث. فوقع البلدانيون العرب في هذا المأزق. وحدث هذا أيضاً الى الانساب، وأنساب التوراة ليست صحيحة. لطفي عبد الوهاب يتساءل عن هذهِ المشكلة، فيقول: انا أعجب جداً ان كل أنساب البشرية هذهِ تعود الى رجل واحد! لا أقول أنا ان هناك صفاء في العرق مائة بالمائة، الشعوب تختلط حسب النظريات الانثروبولوجية الحديثة. ولا يوجد عرق نقي تماماً. فكيف بكل هذا الامتداد التاريخي؟
* لنعد الى كتابك (من ألواح سومر الى التوراة)، حيث أنك ذكرت قصة سرجون الأكدي وبالمقابل ذكرت قصة موسى التوراتية، ووضحت التشابه في ما بينهما من دون تعليق، لماذا إذن ذكرت القصتين، ومن المؤثر والمتأثر؟
- إن قصة سرجون الاكدي وجدت ضمن الألواح التي تعود الى العصر السلوقي، أي بحدود (1.200 قبل الميلاد).
* هذا صحيح، ولكن مدة حكم سرجون الأكدي، تعود الى (2.400 ق.م)، وهناك ألواح وجدت يعتقد أنها مكتوبة بخط سرجون نفسه، ومن الجانب الآخر، فإن موسى يعتقد ان فترة خروجه بين (1350-1250ق.م)..
* كيف ذلك؟ وقد حددت تواريخ جميع الألواح، من أقدمها حتى أحدثها؟
في الحقيقة، وجدت ألواح تخص سرجون ولم يحدد تاريخها حتى هذهِ اللحظة..
*لقد كانت حادثة الطوفان خطا فاصلا فى طول عمر الانسان , حيث كان عمره طويل جدا قبل الطوفان يصل لاكثر من ثلاثين الف سنة كما جاء بقوائم الملوك السومرية , بينما اصبح عمره حوالى مائة سنة بعد الطوفان, كيف تفس ذلك من وجه النظر الاثارية
ان أثبات ( قوائم ) الملوك هذه اعطت رقما خياليا للملوك الثمانية الذين قالت عنهم انهم حكموا قبل الطوفان . اذ خصص لهم 241200 سنة . وأغلب الظن ان مثل هذا الرقم الخيالى , انما يعكس فكرة شائعة عند اكثر الامم القديمة , وهى ان الانسان كان فى قديم الزمان يتمتع بعمر طويل وصفات جسدية خارقة . ومن غير المستبعد ان جامع الأثبات ( القوائم ) السومرية لم يكن فى حوزته غير اسماء ثمانية ملوك من قبل الطوفان , فاضطر الى تطويل سنوات حكم كل منهم لتغطى حقبة زمنية تصورها واسعة جدا، وهى التي تفصل بين ظهور اول سلالة حاكمة وبين حدوث الطوفان "
* ما رأيك بقول أغلب دارسي الأدب الحديث بأنه لم يكن هناك مسرح للسومريين، ويقول د. قاسم الشواف في كتابه (ديوان الأساطير) بوجود المسرح السومري، خصوصاً وإن هناك نصوصاً سومرية ذات بنية مسرحية، أمثال زواج اينانا ودوموزي ومراثي نفر وأور وغيرها. ألا تعتقد بأن هذهِ النصوص هي اللبنة الأولى لبناء المسرح البابلي واليوناني في ما بعد، كما أن النقاد يؤمنون بأن بداية الشعر كان من حداء الابل، فلماذا لا يكون المسرح السومري هو هذا الحداء..؟
هذا صحيح، ومن الممكن ذلك، خصوصاً وإن لدينا نصوصاً ذات طابع مسرحي بالفعل فمن خلال الزواج المقدس والمراثي وقصة الخليفة البابلية، والتي هي ذات جذور سومرية. وهذهِ نصوص تعطي هذا الانطباع، ولكن، هل هناك مسرح معين، هذا ما لا اعرفه.
* أنا أقصد بداية فكرة المسرح..
نعم، الجانب الفكري موجود وكذلك كالفكرة المسرحية. وهناك من الدلائل ما يشير الى وجودها. ولدينا بعض الاشارات في قصة الخليفة البابلية (إينوما إيليش) بأن هذا الاحتفال كان يستمر أحد عشر يوماً وربما كان يمثل بعض فصولها، وخاصة فصل انتصار مردوخ على تيامة إلهة الشر، وتتويج مجمع الآلهة له وإعطاؤه خمسين إسماً من أسمائها.
* لقد تشابهت النصوص التي درست أدب السخرية في وادي الرافدين، وبالذات لدى السومريين، وذكرت نفس النصوص في كتابك (سومر.. اسطورة وملحمة) وهي نفسها التي ذكرها العلامة الدكتور طه باقر في كتابه (مقدمة في أدب الحضارات القديمة) ألا توجد سوى هذهِ النصوص في أدب السخرية أم ماذا؟
جمعت هذهِ النصوص من قبل الأستاذ طه باقر وقبله الأستاذ كريمر وأنا جمعت جزءاً منها، فهناك رسالة من قرد الى أمه. وقصة جميل ننورتا، ولدينا الآن مقطوعة ثالثة، وهي قصة ثلاثة أشخاص يسوقون ثوراً. وكان معهم عربة وبقرة. فعندما ذهبوا يجلبون الماء بعد منتصف الطريق، رجعوا فوجدوا أن البقرة قد ولدت عجلاً وأن ما في العربة من أكل قد اكله العجل. فأرادوا أن يحتكموا الى الملاك فيمن هو أولى بهذا العجل الصغير. فصاحب العربة قال: أنا الذي حملت الحشيش، وصاحب البقرة قال: أنا الذي جلبت البقرة وهي التي ولدت العجل، والآخر قال العجل لي. وذهبوا الى الملك. لكن النص خِرمَ حتى نهايته.
وهناك في الأمثال والحكم مسحة من الهزل والتهكم.
* ذكرت في كتابك (سومر.. أسطورة وملحمة) ان الأدب الرافديني اعتمد على التكرار لسببين، الأول: ليهيئ متسعا من الوقت يسترجع المنشد خلالها البيت التالي من القصيدة، والثاني توكيد المعنى. ألا تتوقع أن السبب الرئيس من هذا التكرار هو البنية الإيقاعية للقصيدة السومرية بالذات، وذلك لأن الشعر السومري لا يعتمد على الوزن، لكنه يعتمد على بنى صوتية معينة ومن ضمنها التكرار، ليخلق إيقاعاً شعرياً، كما نجده في قصيدة النثر مثلاً؟
وارد جداً، هذا تعليل وارد جداً.
* وتقول في الكتاب نفسه ان جلجامش كان كاهناً لمعبد إينانا..
أنا لم أقل هذا، لكن هذا استنتاجك، وأنا قلت انه كان يلقب بـ (إن) بمعنى الكاهن الأعظم، وهو لقب ديني وسياسي. ففي سومر يمنح هذا اللقب لملكٍ واحد، وجلجامش كان يلقب بهِ..
* واستنجدت عشتار بجلجامش بخصوص شجرة الخلبو؟
نعم
* إذن، لماذا انقلب جلجامش على عشتار في نهاية القصة؟
لا أدري، ولكن هذهِ تعكس انه لا يريد ان تكون عشتار حليلة له بعدما اتهمها أنها تنتقل بين عشاقها، وهذهِ مسألة ليست غريبة على طبع الرجل، الذي يريد أن تكون زوجته وحبيبته خاصة بهِ.
* ألا تعتقد بأن قصة تموز وأنكي - امدو هي أسطورة التحول من البداوة الى الاستقرار وهي قصة قابيل وهابيل قبل الطوفان ويعقوب وعيسو بعد الطوفان؟
- هذا ممكن، وتموز يمثل البداوة لأنه راعٍ، وانكي - أمدو فلاح، وهو يمثل المدنية والحوار الذي جرى بينهما هو حوار بين البداوة والتحضر. ابن خلدون في كتابه (العبر) يتحدث تفصيلاً عن سمات وخصائص البداوة والبدوي مقارنة بالحضر والتحضر، ومن جملة ماذكر، البدوي هو أصل ولا يخاف، بخلاف الحضري. وهذا موضوع طريف جداً.
* أخيراً.. ألا ترى يا دكتور إننا أخذنا تاريخنا من الغرب، أي أن الغرب اخذوا تراثنا وقرأوه بطريقتهم الخاصة، ثم أرسلوه الينا كما هم يريدون، ومن هذا - مثلا - مايدعى بـ”المشكلة السومرية” وغيرها من المشكلات الأخرى؟
إطلاقاً.. إن تاريخنا متكامل تماماً، ولا يستطيعون خلق فجوة للدخول من خلالها. إن التراث الرافدين متواصل ومتراصٍ بطريقة تامة، وهو تاريخ يبدأ منذ بدء البشرية وحتى هذهِ اللحظة بتنامٍ واضح وتصاعد حضاري. هذا أمر متفق عليه لدى جميع الباحثين، ولا توجد فترات مظلمة أو غير واضحة في هذا التاريخ.
_________________________________________________
أناشيد الزواج المقدس لتموز ونشيد الانشاد لسليمان - مقال للدكتور فاضل عبد الواحد علي في مجلة سومر الاثارية /الجزء الاول والثاني المجلد الرابع والثلاثون / صادرة عن المؤسسة العامة للآثار والتراث /وزارة الثقافة والاعلام العراقية 1978
أناشيد الزواج المقدس لتموز ونشيد الانشاد لسليمان - مقال للدكتور فاضل عبد الواحد علي في مجلة سومر الاثارية /الجزء الاول والثاني المجلد الرابع والثلاثون / صادرة عن المؤسسة العامة للآثار والتراث /وزارة الثقافة والاعلام العراقية 1978

من المعروف عن العقيدة الدينية عن السومريين والبابليين مبدأ الحيوية " animism " ومبدا التشبيه " anthropomorphism " اللذان يرجعان الى معتقدات انسان عصور ماقبل التاريخ .
ففي عصر مبكر من تاريخ وادي الرافدين ، جسد السومريون ومن بعدهم البابليون قوى الخصب بألهة هي إنانا ( عشتار ) وبأله للنبات والماشية هو دموزي ( تموز ) كما اعتقدوا أن زواج هذا الاله الشاب من هذه الالهة التي اعتبروها ايضا الهة الحب كان المصدر لكل مظاهر الخصب في الحياة ولم يقف سكان وادي الرافدين عند الايمان بالمعتقدات فقط بل كان لزاماً عليهم ان يقيموا احتفالات وطقوسا دينية يحاكون من خلالها ماصنعته الالهة في البدء ومن ذلك زواج اله الخصب دموزي من الهة الخصب والحب وهو الزواج الذي كانوا يقيمونه سنويا ً في موسم الربيع والذي اصطلح المختصون على تسميته بـ الزواج المقدس .
ولقد كان الزواج المقدس ، كأي احتفال ديني آخر يتضمن ترتيل الانلشيد والقصائد مما يؤلفه الشعراء السومريون على لسان العروس انانا ( عشتار) التي تقوم بتمثيل دورها احد كاهنات المعبد وعلى لسان العريس دموزي الذي يقوم باداء دوره الملك " او احد الكهنة " وكان يتضمن طقوسا تنتهي بزواج الملك بالكاهنة محاكاة لزواج اله الخصب من الهة الخصب
بعد هذه المقدمة القصيرة على مايسمى بالزواج المقدس التي كان من الضروري ذكرها لتعريف القاريء باولويات الموضوع ، ننتقل الان الى صلب موضوعنا الحالي وهو سفر نشيد الانشاد لسليمان فمن الجدير بالذكر ان هذا السفر القصير الذي يتكون من ثمانية اصحاحات فقط كان منذ زمن طويل ومايزال موضوع نقاش بين رجال الدين والمعنيين بدراسة العهد القديم على الرغم من أنه لاينسجم في نظر الباحثين بأية صفة دينية فهو لايمت بصلة الى المعتقدات الدينية للعبراننين او تاريخهم كما ان محتوياته لاتنسجم أصلاً وطبيعة الكتاب المقدس فهذا السفر عبارة عن مقطوعات غزلية ترد تارة على لسان فتاة هيمانة بفتى احلامها الذي سحرها بجماله وخصاله والتي بلغ الوجد بها حدا بحيث انها راحت تتحدث وبصورة ساخرة عن علاقتها الجنسية معه وتارة اخرى على شكل مقطوعات غزلية ترد على لسان فتى عاشق سحرته حبيبته بجمالها فراح يخلع عليها من الوصاف والتشابيه مالا حصر له .
وعلى الرغم من هذا الطابع العاطفي – الجنسي الذي يتسم به سفر الاناشيد فان بعض الباحثين وخاصة رجال الدين الارثوذكس يحظى بقدسية مماثلة للاسفار الأخرى في التوراة وانه في اعتقادهم يحمل بين سطوره معنى اعمق مما يوحي به ظاهره فعندهم ان الفتى العاشق في سفر الانشاد هذا انما يرمز الى اله العبرانيين " يهوا " وان الفتاة التي يتغزل بها وتتغزل به ليست سوى رمز لاسرائيل
والى جانب هذين التفسيرين توجد تفاسير واجتهادات لانجد حاجة لذكرها باستثناء راي واحد نعتقد انه على جانب كبير من الاهمية بالنسبة لتوضيح الجذور التي استمد منها سفر الاناشيد مادته وطابعه . والرأي الذي نحن بصدده الان يعود الى الاستاذ ميك
الذي ادعى عام 1933 ان نشيد الانشاد انما يمثل صورة محورة للطقوس العبرانية التي كانت تقام بزواج اله الشمس من اللهة الم ، وان طقوس هذا الزواج المقدس قد اخذها العبرانيون من الكنعانيين الذين اخذوها بدورهم عن سكان وادي الرافدين .
ومن جملة النقاط التي استند اليها ميك في تكوين فرضيته :
1 ) ان الفتى العاشق في نشيد الانشاد ينعت مرة بكلمة " ملك " ومرة بكلمة " راعٍ " وهما من نعوت اله الخصب دموزي ( تموز ) في وادي الرافدين .
2 ) ان الفتاة في نشيد الانشاد توصف مرة بكونها زوجة ومرة بكونها " اختا " وهاتان صفتان لالهة الخصب إنانا ( عشتار )
3 ) ان السفر موضوع البحث عبارة عن حوار عاطفي يرد مرة على لسان الفتى ومرة على لسان حبيبته على غرار مانجده في قصائد الحوار السومرية بين الاله دموزي وحبيبته إنانا
وفي عام 1962 أي بعد مرور اربعين عاما على مقالة ميك الاولى بخصوص سفر الاناشيد وهي فترة طويلة قطعت خلالها الدراسات السومرية شاواً بعيدا حيث توفرت مادة غزيرة ودراسات لغوية وادبية مستفيضة ، نشر الاستاذ كريمر مقالة عن " سفر نشيد الانشاد واناشيد الحب السومرية " (3 ) استعرض فيها الرأي القائل بعلاقة السفر وتأثره بطقوس الخصب عند السومريين
ثم كرر رأيه هذا عام 1969 واقر ان التشابه بين سفر نشيد الانشاد والطقوس السومرية يتعدى الصورة والاطار العام الى التشابه في التعابير احيانا ً .
وادا ماانتقلنا من العموميات الى التفاصيل الدقيقة للموضوع وجب علينا لاثبات وجود تاثيرات سومرية – بابلية في سفر نشيد الانشاد ان نقدم دراسة مقارنة بين النصوص السومرية والنص التوراتي ،
ويمكننا بهذا الخصوص تقديم النقاط الآتية :
1 ) قلنا ان الملك السومري كان يقوم بدور الاله العريس دموزي (تموز) في طقوس الزواج المقدس ولدينا نصوص توضح ذلك نذكر منها على سبيل المثال قيام كل من الملك شولكي (2095-2048 ق.م )وشو –سن ( 2038-2030 ق. م) من( سلالة اور الثالثة ) والملك ادن –دكان (1974-1954 ) قبل الميلاد من سلالة ايسن بهذه المهمة .
وبطبيعة الحال فان دور الملك سليمان في نشيد الانشاد يكون مطابقاً لدور نظيره الملك السومري فهذه العروس السومرية تخاطب زوجها المل السومري شو –سن وتدعوه بحرارة لأن يقبلها :
" ايها العريس دعني اقبلك
فقبلتي عزيزة احلى من الشهد
وفي حجرة النوم مملوءة شهدا
دعني اتمتع بجمالك اللطيف
ايها الاسد دعني اقبلك
فقبلتي عزيزة احلى من الشهد "
" وانت مادمت تحبني
اتوسل اليك ان اقبلك
ياسيدي الاله ، ياسيدي الحافظ
ياشو –سن ، يامن يدخل السرور الى قلب انليل
اتوسل اليك ان اقبلك (4)
ونظيراً لهذا في سفر الأناشيد نجد العروس هي الأخرى تدعو حبيبها " الملك " لأن يقبلها فتقول :
" ليقبلني بقبلات فمه لان حبك أطيب من الخمر. لرائحة ادهانك اسمك دهن مهراق لذلك احبتك العذارى اجذبني وراءك فنجري ( 1:1-4 )
2 ) من المعروف عن دموزي ( تموز ) باعتباره الها للخضرة والماشية انه نعت بت " الراعي " ( في السومرية sipa والبابلية u re’ ) ولهذا كان من الطبيعي ان يطلق اللقب نفسه على الملك الذي يقوم بدوره في احتفال الزواج المقدس . لنأخذ مثالاً على ذلك الابيات التالية من مقطوعة نظمت على لسان العروس وهي تخاطب الملك السومري شولكي :
عندما أغتسل من اجل ثور الوحش ، من اجل سيدي
عندما اغتسل من اجل الراعي دموزي
عندما اطيب فمي بالعنبر
عندما ازين عيني بالكحل ...
عندما يحيط خصري بكلتا يديه الجميليتين
وبالمثل يظهر العريس في سفر الاناشيد هو الاخر بشخصية راعٍ للغنم :
" اخبرني يامن بحثه نفسي اين ترعى؟ اين تريض عند الظهيرة ؟ لماذا انا اكون كمقنعة عند قطعان اصحابك ان لم تعرفي ايتها الجميلة بين النساء فاخرجي على أثار الغنم وارعي جداءك عند مساكن الرعاة " (1: 5-8)
3) كثيراً مايلقب الاله دموزي في نصوص الزواج المقدس ( وكذلك بديله الملك ) بـ ( ثور الوحش ) في السومرية Ame والاكدية Remu وهو لقب يقصد منه الدلالة على القوة والقدرة على الأخصاب نذكر على سبيل المثال المقطوعة التالية التي تتوسل فيها إنانا الى حبيبها دموزي بان يطلق يديها لنها تاخرت في العودة للبيت فهي تقول :
" ماهذا ياثور الوحش . اخل سبيلي
ياكولي – انليل اخلي سبيلي لابد ان ارجع الى البيت
فباية حيلة ساتذرع الى امي ؟
باية حيلة ساتذرع الى امي ننكال ؟
وبالمثل فان الفتاة في سفر الاناشيد تشبه حبيبها بحيوان جبلي قوي وجميل هو الضبي مرة واليل مرة اخرى فتقول :
" صوت حبيبي هو ذا يأتي طافراً على الجبال قافزاً على التلول ، حبيبي شبيه بالضبي أو يعفر الايائل ...(2:8-9)
4) ومن التشابه الأساسية الأخرى ان العريس الاله في النصوص السومرية يستعمل في مخاطبة عروسه لفظ " اختي " وهذا مانجده ايضا في نشيد الانشاد
فالراعي دموزي يذكر حبيبته إنانا بما قدم لها من هدايا فيقول :
اختاه ! الى قلبك انا من جلب الشهد
اختاه! الى قلبك ، القلب المحبوب انا من جلب الشهد
اختاه ! ياضوء النجوم ، ياشهد الم التي ولدتها
اختاه ! يامن جلبت لها ارغفة الخبز خمسة خمسة
اختاه ! يامن جلبت لها ارغفة الخبز عشرة عشرة
ويضيف دموزي بخصوص هدايا عروسه فيقول:
اخناه ! ساجلبها معي الى البيت
حملان لطيفة ونعاج
جداء لطيفة وماعز
حملان جيدة ونعاج
جداء جيدة وماعز
اختاخ ! ساجلبها معي الى البيت
وهاهو العريس في سفر نشيد الانشاد يخاطب عروسه مستعملا الكلمة نفسها :
مااحسن حبك يااختي العروس كم احبك اطيب من الخمر وكم رائحة دهانك اطيب من رائحة الاطياب شفتاك ياعروس تقطران شهداً ، تحت لسانك عسل ولبن .... (4: 10 -12)
5) يلاحظ الباحث في نصوص الزواج المقدس ان العريس دموزي يدعو عروسه الى دخول بستانه او جنينته للتفسح بين ظلالها واشجارها وان العروس إنانا تستجيب لتلك الدعوة فها هي تقول :
أدخَلَني اليها
ادخلني اخي الى جنينته
ادخلني دموزي الى جنينته
فتمشيت معه بين اشجارها الباسقة
وتوقفت معه عند اشجارها الممتدة
ثم " جثوت " كما يجب عند شجرة التفاح
وفي سفر الانشاد ترد الاشارة الى دخول العروس " جنة الحبيب " :
استيقظي ياريح الشمال . لياتِ حبيبي الى جنته وياكل ثمرة النفوس . قد دخلت جنتي يااختي العروس قطفتُ مرى (Myrrh ) مع طيبي اكلت شهدي مع عسلي . شربت خمري مع لبني .(4-16 , 1:5 )
ثم ترد الاشارة الى شجرة التفاح على غرار ماجاء على لسان إنانا قبل قليل :
كالتفاح بين شجرالوعر كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت ان اجلس وثمرته حلوة لحلقي. ادخلني الى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة اسندوني باقراص الزبيب انعشوني بالتفاح فاني مريضة حباً ( 2: 4—3 )
6) من نقاط التشابه الاخرى في كلا النصين مجيء العريس الى دار حبيبته طارقا باب بيتها واستجابة العروس بفتح الباب وهي في اجمل ثيابها وأبهى زينتها فلنستمع الى دموزي وهو يخاطب إنانا فيقول :
اختاه لمَ اغلقتِ عليك الاب ؟
ياصغيرتي لم اغلقت عليك الباب
( وتجيبه إنانا ) :
كنت استحم . كنت اغتسل بالصابون
اغتسل بالابريق المقدس
كنت ارتدي ثياب الملوكية , ملوكية السماء
ولهذا اغلقت على نفسي الباب
وتقول العروس في سفر نشيد الانشاد :
" انا نائمة وقلبي مستيقظ . صوت حبيبي قارع
افتحي لي يااختي ياحبيبتي ياحمامتي ياكاملتي لأن راحي امتلأ من الطل وقصصي من ندى الليل . خلعت ثوبي فكيف البسه قد غسلت رجلي فكيف اوسخها . حبيبي مد يده من الكوة فانت عليه احشائي . قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرا واصابعي على مقبض الباب ..
Comments powered by CComment