
يخبرنا الدكتور المرحوم بهنام ابو الصوف عن المرحلة الدراسية للدكتور دوني جورج الذي كان طالبا عند ابو الصوف :
أتذكر المرحوم الآثاري دوني جورج باعتزاز الأستاذ بتلميذه القريب إليه، كنت أستاذاً للآثاري دوني ثلاث مرات في مرحلة دراسته للآثار، الأولى: في مطلع السبعينيات كان مع زملاءه في إحدى دورات قسم الآثار والحضارة في كلية الآداب، حين كنت محاضرا ًلهم في مادة جذور الحضارة وأصل الإنسان في المرحلتين الثالثة والرابعة (المنتهية) من دراسة البكالوريوس. كان الطالب دوني ، مع عدد من زملاءه المتميزين يعدون على أصابع اليد . وكان دوني أبرزهم في دوامة ومثابرته وحضوره الذهني، وكان أسرعهم للبحث عن أي مرجع، وأن كان باللغة الإنكليزية، يتعلق بمادة دراستهم. فعلمت آنذاك بأنه دون رفاقه في الدورة يحسن الإنكليزية ويقرأ فيها بسهولة. وقد حكى لي بنفسه بأنه وعائلته كانوا يسكنون قرب قاعدة الحبانية، والتي كانت آنذاك تابعة للقوات البريطانية في العراق، وأن والده كان أحد الكوادر العراقية التي تعمل بتلك القاعدة. وإنه (أي دوني) قد نشأ وترعرع في تلك الأجواء التي منحته الشيء الكثير عن اللغة الإنكليزية. والتي أفادته في الواقع ليس وهو طالب آثار فقط بل حتى بعدئذ عندما أشتغل معنا بعد سنوات في مؤسسة الآثار، ثم عند قيامه بالأعداد لدراسة الماجستير في الثمانينات في قسم الدراسات العليا في قسم الآثار وبعد أجتيازه السنة التحضيرية بنجاح خُصص له مشرفاً المرحوم الدكتور وليد الجادر ليكون مسؤولاً عن أعداد رسالة له في هذا الشأن. وحين استشاري هو وأستاذه حول موضوع الرسالة أشرت عليهما بأن تكون مادة الرسالة في مرحلة العصر الحجري الحديث، البقايا البنائية في طبقات تل الصوان من الألفين السادس والخامس قبل الميلاد، وقدمت لهما ما كان لديّ من معلومات ومخططات لعمارة الموقع والتي اكتشفت في مواسم تنقيبات الستينات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي. وقد انجز الدارس دوني جورج رسالة جيدة في هذا الشأن بمعاونة أستاذه المشرف، أجتاز بها المناقشة بنجاح، وقد كنت حينها رئيساً للجنة المناقشة التي منحته درجة الماجستير.
ومرة أخرى في مرحلة التسعينيات، أنخرط المرحوم دوني في التحضير لدراسة الدكتوراه، وقد نصحته آنذاك بأن يجعل من التماثيل والأواني الحجرية المكتشفة في مقابر الأطفال في تل الصوان مادة لموضوع أطروحته، ويقوم بدراستها ليس فقط من النواحي الفنية وتاريخ الفن، بل يؤكد على الناحية التقنية من إنتاج تلك المواد الحجرية، ويظهر جهد ومهارة النحات العراقي في مرحلة الألف السادس قبل الميلاد، وهي دراسة غير مسبوقة وستعطي لرسالته بعدًا تقنياً بجانب البعد الفني والتاريخي. وقد فعل الباحث دوني ذلك بنجاح وبجهد ظاهر، كنت أنا بجانبه في كل الوقت، كوني مشرفاً على دراسته وعلى أعداد رسالته لهذه المرحلة العليا من الدراسة للآثار، وقدمت الرسالة للمناقشة بعد الانتهاء من أعدادها. وقمت في حينه الدفاع عن الرسالة بقوة لأني لمست عند أحد الزملاء من أعضاء لجنة المناقشة، معارضة غير موضوعية وفي شيء من العداء الشخصي للطعن ليس فقط في الرسالة بل في معدّها أيضاً. وأذكر أنني قلت في معرض كلامي عن الرسالة والجهد الذي بذله الباحث دوني في أعدادها، أمام اللجنة كوني المشرف؛ بأني أجد ما قام به الطالب دوني جورج عمل متميز وغير مسبوق في دراساتنا الآثارية،وأضفت قائلاً: بعلمي أن هذه الرسالة لا تقل تمييزاً عن أية رسالة جامعية تُعد في هذا الباب ولدرجة الدكتوراه في أية جامعة من الغرب. وكنت صادقاً في قولي هذا وفي دفاعي عن الرسالة. وقد أفرحني بعد هذا قرار لجنة المناقشة بقبول الرسالة بدرجة أكثر من جيد. واجتاز الأثاري دوني جورج التجربة لا بل المحنة بنجاح وبكفاءته وجهد المتميز.
أن الآثاري الدكتور دوني جورج، كان وطيلة دراسته، وخاصة لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، كان جلّ اهتمامه بمرحلة عصور ما قبل التاريخ، وبفترة العصر الحجري الحديث خاصة. وكنا أنا وهو على اتصال دائم بهذا الشأن وعلى كل ما يصدر من كتب أو بحوث تخص مرحلة الدراسة هذه. وهو لم يكن مختصاً بالدراسات المسمارية أو مهتماً بها أصلاً، كما كان بعيداً عن مجال الآشوريات ولغات العراق القديم.
في أواخر السبعينيات حين جاء دكتور دوني للعمل في مؤسسة الآثار بعد حصوله على درجة البكالوريوس، كان شاباً مملؤا حماسة وشوق للعمل في مجال اختصاصه. وكان عدداً منا نحن الكادر الأقدم، من خريجي الدورة الأولى في قسم الآثار، وبالأخص أنا والزميل العزيز عبد القادر حسن علي التكريتي معجبين جداً بالقادم الجديد. وبحماسته وتعطشه للمعرفة الآثارية الميدانية بالذات. وكنا نرعاه ونقدم له العون والنصيحة باستمرار.
وتمضي السنين ويشتد عود د. جورج وتزداد تجاربه الميدانية منها بالذات، بجانب معارفه النظرية وما يختص بتنقيبات الآثار والحاسوب واستخدامه في مجال الآثار واللقى الأثرية.وحين تحولت المؤسسة في أواخر التسعينيات الى هيئة عامة وصارت تضم عدد من الإدارات العامة كالمتاحف والبحوث والتنقيبات والتحريات والتراث والمخطوطات والنشر.أعطيت الدائرة العامة للبحوث والدراسات للدكتور دوني جورج مديرا ًعاما ًوبجدارة .
وكنا بالذات أنا والأخ عبد القادر التكريتي نتردد عليه باستمرار ونشجعه، إذا كنا مع عدد من الزملاء والزميلات المتقاعدين نعمل بعقد سنوي مع هيئة الآثار كمستشارين آثاريين . وبعد أحداث بعض التنقلات في إدارات هيئة الآثار العامة، نُقل المرحوم الدكتور دوني مديرا ًعاما ًللمتحف العراقي ومتاحف الآثار في البلد، وعندما حلّت الكارثة باحتلال العراق في عام 2003، كان الدكتور دوني مديراً عاما ًللمتحف العراقي ومن هذا الموقع الهام دولياً، وبعد انفتاح العراق على العالم الخارجي، وبحكم مقدرة المرحوم دوني في استخدام الحاسوب والاتصال عن طريقه في أكثر من جهة في أنحاء الولايات المتحدة وأوربا، صار يعمل على تسويق نفسه عن طريق هذا الجهاز والاتصال بالأوساط الجامعية والآثار والمتحفية في الخارج.
لم يكن للدكتور دوني لدوني أي مؤلفات ما عدا رسالتّي الماجستير (المطبوعة) والدكتوراه(وأملي أنها ستطبع قريباً كما عرفت)، وربما تقرير أو أكثر لحفريات أجراها في موقع المدينة السومرية (أوما) قرب مركز ناحية النصر وأظنها نشرت في مجلة سومر، كما لم يتسلم أي مناصب علمية ما عدا ما ذكرته أعلاه: مديرا ًعاما ًللبحوث والدارسات، ثم مديرا ًعاماً للمتحف العراقي، ثم عين أخيراً ولبضعة أشهر في عام 2005 رئيساً لهيئة الآثار بالذات، كونه أبرز المتبقين من الكوادر الآثارية المرموقة من جيله، وقد تركها إلى سوريا ومنها إلى الولايات المتحدة، حيث عمل مدرساً في معهد للآثار في جهة من ولاية نيويورك, وعمل وهو في الولايات المتحدة يدا بيد مع اللجان الأكاديمية الآثارية، برئاسة زميلنا الدكتور مكواير جبسن رئيس قسم الآثار في جامعة شيكاغو، وحتى وفاته، في البحث عن الآثار العراقية المسروقة واستعادة ما أمكن استعادته منها وإعادته للعراق عن طريق القنوات الرسمية والدبلوماسية حتى وفاته وهو في طريقه إلى تورنتو في كندا للتحدث إلى الجالية العراقية المقيمة هناك.
اود التأكيد على حقيقة مهمة يعرفها اغلب استاذة وزملاء د. جورج وهي انه لم يختص بالاشوريات ولم يدرس اللغة الاشورية او يتخصص في تاريخ الاشوريين وانما درس جذور الحضارة في مرحلة البكالوريوس ومن بعدها حاز الماجستير في عمارة تل الصوان في سامراء الحالية ( مطلع الالف السادس ق.م) وكان الاشراف عليها مشتركا بيني وبين د. وليد الجادر, وبعدها اشرفت على رسالته في الدكتوراه وكانت بحق انجاز بحثي متميز لانه كان حول تقنيات صنع تماثيل قرية تل الصوان في سامراء ايضا, وحاول فيه الخروج بتفسير جديد عن الكيفية التي تمكن النحات العراقي في العصر الحجري القديم من صنع هذه التماثيل من دون الالات حديدية او الالات نحت حديثة وقد بلى بلاء حسنا في المناقشة رغم اعتراضات بعض الزملاء في لجنة المناقشة حينها.
كان الدكتور دوني رجلا وطنيا يؤمن جديا بعقيدته العروبية و كان منتميا الى صفوف حزب البعث و جيش القدس في اواخر التسعينيات و يرتدى البدلة الخاكية في المناسبات الحزبية والوطنية وحتى ايام التصعيد للحرب الاخيرة و احتلال العراق في 2003.
نسخة سيرة الدكتور جورج - أنقر هنا
وللاطلاع اكثر حول ملابسات وفاة د. دوني جورج يرجى التفضل بزيارة الرابط ادناه : أنقر هنا .
Comments powered by CComment