
فـالـتـر أنـدريـه، عـالـم آثـار ورسّـام
مدونة الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري - العراق في التاريخ
يـعـرف كـلّ الـمـهـتـمّـيـن بـآثـار بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن (1) عـالـم الآثـار الألـمـاني فـالـتـر أنـدريـه Walter ANDRAE الّـذي شـارك مـع روبـرت كـولـدفـيـه Robert KOLDEWE في تـنـقـيـبـات بـابـل مـن 1899 إلى 1903، ثـمّ أشـرف وحـده، بـيـن عـامي 1904 و 1914، عـلى تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط الّـتي أزاح فـيـهـا الـتّـراب عـن آثـار مـديـنـة آشـور، أولى عـواصـم الـدّولـة الآشـوريـة.
ولأهـمـيـتـه كـشـاهـد عـلى تـاريـخـنـا الـحـديـث ولـجـهـوده الـهـائـلـة في اسـتـعـادة تـاريـخـنـا الـقـديـم سـأخـصـص لـفـالـتـر أنـدريـه مـقـالـيـن : أبـدأ في هـذا الـمـقـال بـالـكـلام عـنـه وأريـكـم عـدداً مـن تـخـطـيـطـاتـه ورسـومـه، ثـمّ سـأكـمـل في الـمـقـال الـتّـالي الـحـديـث عـن إعـادة تـشـيـيـد بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب في مـتـحـف بـرلـيـن.
فـالـتـر أنـدريـه :
ولـد في لايـبـزج، ألـمـانـيـا عـام 1875، وكـان أبـوه مـهـنـدسـاً في الـسّـكـك الـحـديـديـة، ولـهـذا أراده أن يـدرس الـهـنـدسـة رغـم قـدراتـه الـفـنّـيـة الّـتي ظـهـرت في سـنّ مـبـكّـرة.
وبـعـد أن أكـمـل دراسـتـه الـثّـانـويـة قـام سـنـة كـامـلـة بـخـدمـتـه الـعـسـكـريـة قـبـل أن يـبـدأ دراسـة الـهـنـدسـة الـمـعـمـاريـة في مـديـنـة درسـدن. وكـانـت أخـتـه إلـيـزابـيـث تـدرس في أكـاديـمـيـة الـفـنـون الـجـمـيـلـة مـمـا سـهّـل لـه الالـتـقـاء بـالـطّـلاب والأسـاتـذة فـيـهـا والـمـشـاركـة في أعـمـالـهـا.
وبـعـد أن حـصـل فـالـتـر أنـدريـه عـلى مـاجـسـتـيـر الـهـنـدسـة الـمـعـمـاريـة عـام 1898، وكـان في الـثّـالـثـة والـعـشـريـن مـن عـمـره، إشـتـغـل بـضـعـة أسـابـيـع في مـكـتـب هـنـدسـة حـكـومي، ثـمّ أرسـل لـه أحـد أصـدقـائـه إعـلانـاً نـشـر في جـريـدة : “نـبـحـث عـن رسّـام لـبـعـثـة تـنـقـيـبـات في الـشّـرق الأدنى”. وأجـاب فـالـتـر أنـدريـه حـالاً عـلى الـطـلـب.
واخـتـاره روبـرت كـولـدفـيـه Robert KOLDEWE الـمـسـؤول عـن بـعـثـة الـتّـنـقـيـبـات مـن بـيـن 16 مـتـقـدمـاً. وكـانـت الـجـمـعـيـة الألـمـانـيـة الـشّـرقـيـة Deutsch Orient- Gesellschft هي الّـتي نـظّـمـت الـبـعـثـة ومـوّلـتـهـا لـتـنـقّـب في مـوقـع بـابـل. (2)
وفي شـهـر كـانـون الأوّل مـن عـام 1898 سـافـر أنـدريـه مـع كـولـدفـيـه إلى الإسـكـنـدريـة فـبـورسـعـيـد ثـمّ حـيـفـا وبـيـروت. وبـعـد أن زارا بـعـلـبـك أكـمـلا طـريـقـهـمـا نـحـو الإسـكـنـدرونـة وحـلـب. وفي 8 شـبـاط مـن عـام 1899 غـادرا حـلـب بـصـحـبـة قـافـلـة عـبـرت الـبـاديـة نـحـو بـغـداد، ومـرّا بـمـواقـع أثـريـة تـفـحّـصـهـا كـولـدفـيـه، وكـانـت تـلـك أولى تـجـارب فـالـتـر أنـدريـه الّـذي تـكـن لـه أيّـة مـعـرفـة بـالآثـار.
وقـد سـجّـل فـالـتـر أنـدريـه مـا كـان يـراه كـلّ يـوم تـقـريـبـاً بـتـخـطـيـطـات وبـرسـوم بـالألـوان الـمـائـيـة كـلـوحـتـه لـمـدخـل “قـريـة” عـانـة، وهي الّـتي وضـعـتـهـا في بـدايـة الـمـقـال، أو رسـمـه لـحـديـثـة ولـهـيـت وبـعـد 26 يـومـاً مـن الـسّـفـر، أي في الـخـامـس مـن آذار عـام 1899، وصـلا إلى بـغـداد :
(حـوش بـيـت بـغـدادي)
الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة في بـابـل 1899 ــ 1903 :
بـدأت الـتّـنـقـيـبـات في بـابـل في 26 آذار 1899،
(دار بـعـثـة الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة في بـابـل)
وقـد تـعـلّـم فـالـتـر أنـدريـه مـن كـولـدفـيـه، خـلالـهـا، مـنـاهـج الـتّـنـقـيـبـات الـحـديـثـة. وكـانـت تـلـك بـدايـة حـيـاة جـديـدة لـه كـرّسـهـا حـتّى وفـاتـه لـدراسـة آثـار بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن.
وتـعـلّـم مـن كـولـدفـيـه طـريـقـة رسـم الآثـار والـقـطـع الأثـريـة : “تـعـلّـمـت مـن كـولـدفـيـه رسـم الـتّـلّ لـيـظـهـر بـأبـعـاده الـثّـلاثـة في الـوقـت الّـذي تـضـيـئـه الـشّـمـس مـن جـنـوب الـشّـرق”. وهـو مـا فـعـلـه أيـضـاً في رسـم الـمـعـالـم الأثـريـة، وكـان بـهـذه الـطـريـقـة يـضـفي عـلـيـهـا ظـلالاً تـبـرزهـا وتـحـدد أمـاكـنـهـا في رسـم الـمـوقـع الـشّـامـل. وقـد اسـتـعـمـل الألـمـان هـذه الـطّـريـقـة في الـرّسـم في كـلّ الـمـواقـع الّـتي نـقّـبـوا فـيـهـا.
وبـدأ روبـرت كـولـدفـيـه تـنـقـيـبـاتـه الـبـابـلـيـة في تـلّ الـقـصـر الّـذي وجـدت فـيـه كِـسـر طـابـوق جـعـلـتـه يـخـمّـن أن الـمـوقـع كـان عـلـيـه بـنـاء مـهـمّ غـطّـت جـدرانـه قـطـع فـنّـيـة شـديـدة الـدّقّـة والـمـهـارة عـلـيـهـا تـصـاويـر حـيـوانـات خـرافـيـة “تـنّـيـنـات” وثـيـران قـلـيـلـة الـبـروز. وكـان بـعـض هـذا الـطّـابـوق مـزجـج الألـوان مـسـطـحـاً أو عـلـيـه تـصـاويـر قـلـيـلـة الـبـروز. وقـد عـهـد كـولـدفـيـه إلى فـالـتـر أنـدريـه بـإعـادة تـركـيـب الـطّـابـوق الـمـزجـج الّـذي وجـده مـهـشـمـاً في الـمـوقـع.
وبـعـد أن اشـتـغـل فـالـتـر أنـدريـه عـلى شـظـايـا الـطّـابـوق عـامـاً كـامـلاً يـضـع الـقـطـع الـصـغـيـرة الـواحـدة بـجـنـب الأخـرى ويـؤلـف بـيـنـهـا اسـتـطـاع إعـادة تـركـيـب بـعـضـهـا، ولـو جـزئـيـاً.
وأدرك كـولـدفـيـه أن شـظـايـا الـطّـابـوق تـسـاقـطـت مـمـا كـان في الـمـاضي بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب الّـذي كـان يـفـضي إلـيـهـا، والّـذي كـان مـرصـوفـاً بـالـحـجـارة وعـلى جـانـبـيـه جـداران مـن الـطّـابـوق، وكـان درب الـمـواكـب يـمـتـدّ مـسـتـقـيـمـاً عـلى حـوالي 900 مـتـر، تـزيـنـه أسـود مـتـتـابـعـة مـن الـجـانـبـيـن. ويـقـدر عـدد هـذه الأسـود في زمـن إعـادة نـبـوخـذ الـثّـاني (حـكـم مـن 605 إلى 562 قـبـل الـمـيـلاد) لـتـشـيـيـد الـدّرب بـحـوالي 120 أسـداً.
وكـانـت بـوابـة عـشـتـار في الـحـقـيـقـة بـوابـتـيـن تـنـفـتـحـان الـواحـدة عـلى الأخـرى مـن جـانـبي الـسّـور الـمـزدوج. وبـعـد أن أزيـحـت أطـنـان مـن الـتّـراب ظـهـرت الـبـوابـة الـدّاخـلـيـة الّـتي يـفـضي إلـيـهـا درب الـمـواكـب، وكـانـت لا تـزال تـرتـفـع 12 مـتـراً، تـزيـنـهـا صـفـوف يـعـلـو الـواحـد مـنـهـا الآخـر مـن الـثّـيـران والـتّـنـيـنـات :
وقـد اسـتـنـتـج الـمـنـقّـبـون أنّـه كـان عـلـيـهـا في الأصـل 575 ثـوراً وتـنـيـنـاً عـلى 13 صـف. ولأنّ الـدّرب رفـع مـسـتـواه عـدّة مـرّات فـقـد غـارت الـصّـفـوف الـسّـفـلى مـن الـحـيـوانـات الـبـارزة الـنّـحـت في بـاطـن الأرض.
وكـان الأزرق الـلـون الأكـثـر اسـتـعـمـالاً وخـاصـة في الـخـلـفـيـات، أمّـا الـحـيـوانـات فـقـد كـانـت تـتـتـابـع أمّـا بـيـضـاء أو بـنّـيـة مـصـفـرّة. وكـان الأسـد رمـزاً لـلإلـهـة عـشـتـار والـتّـنـيـن الـثّـعـبـاني الـرأس رمـز الإلـه مـردوخ، أمّـا الـثّـور فـقـد كـان رمـز الإلـه حـدّاد (أداد).
وكـان الـطّـابـوق الّـذي جـمّـعـه فـالـتـر يـصـوّر أسـوداً حـولـهـا زهـور مـنـقـوشـة كـانـت تـغـطي جـوانـب درب الـمـسـيـرات، ويـصـوّر أسـوداً حـولـهـا سـعـف وأغـصـان لـولـبـيـة كـانـت عـلى واجـهـة قـاعـة الـعـرش.
وكـان فـالـتـر أنـدريـه، إلى جـانـب اشـتـغـالـه لـيـلاً ونـهـاراً بـإعـادة تـركـيـب شـظـايـا الـطّـابـوق لإيـجـاد ألـوان الأسـود الـبـابـلـيـة، يـرسـم مـخـطـطـات الـمـواقـع والـقـطـع الأثـريـة ويـسـاعـد كـولـدفـيـه في أعـمـال الـتّـنـقـيـبـات الأخـرى.
(جـانـب مـن الـتّـنـقـيـبـات ونـرى في أعـلى يـمـيـن الـلـوحـة “أسـد بـابـل”)
وهـو يـذكـر أنّـه أصـيـب في سـنـتـه الأولى بـالإسـهـال الـزّحـاري الّـذي أقـعـده أربـعـة أسـابـيـع وأضـعـفـه كـثـيـراً، ثـمّ الـوبـاء الـمـحـلّي : “حـبّـة بـغـداد” الّـتي لـيـس مـنـهـا وقـايـة : “والّـتي انـبـغى عـليّ تـحـمّـلـهـا اثـني عـشـر شـهـراً”.
وقـد بـدأ فـالـتـر أنـدريـه يـتـسـاءل عـن إدراكـه لـلـمـفـاهـيـم الـدّيـنـيـة عـنـد الـبـابـلـيـيـن الّـذيـن كـرّسـوا لآلـهـتـهـم هـذه الأعـداد الـكـبـيـرة مـن الـمـعـابـد والـمـعـالـم الـمـدنـيـة والـنّـصـوص الـمـكـتـوبـة عـلى ألـواح الـطـيـن أو الـمـنـقـوشـة عـلى الـحـجـر، فـهـو كـمـا ذكـر في يـومـيـاتـه كـان قـد نـسي كـلّ مـا عـلـمـوه إيـاه عـن ديـنـه في صـغـره، ولـم يـكـن يـحـتـاج إلى الإيـمـان بـغـيـبـيـات مـا بـعـد الـطّـبـيـعـة.
وقـد نـصـحـه كـولـدفـيـه أن يـقـرأ شـوبـنـهـور لـيـسـاعـده عـلى فـهـم الـمـعـتـقـدات الـدّيـنـيـة ولـكـنـه وجـد فـلـسـفـة شـوبـنـهـور ثـرثـرة عـجـوز أعـزب كـان يـكـتـب لـيـبـعـد الـضّـجـر عـن نـفـسـه !
وكـتـب أنّـه في سـنـتـه الـثّـانـيـة في بـابـل أنـار داخـلـه بـإضـاءة فـلـسـفـيـة جـديـدة تـعـادل الإعـتـقـاد الـدّيـني : تـأثّـره بـالألـوان. وهـو مـا عـبـر عـنـه الـشّـاعـر الألـمـاني غـوتـه بـ “تـجـارب الـضّـوء والـمـعـانـاة مـنـه”. وقـد تـأمّـل مـنـذ ذلـك الـحـيـن تـغـيـرات الإضـاءة حـسـب فـتـرات الـنّـهـار وتـعـاقـب الـفـصـول. وقـد نـفّـذ في تـلـك الـفـتـرة أعـداداً مـن الـرّسـوم بـالألـوان الـمـائـيـة لـمـواقـع الـتّـنـقـيـبـات ومـا حـولـهـا.
وكـتـب : “كـنـت أبـتـعـد عـن مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات في أيّـام الأحـد، بـعـد عـمـل مـرهـق يـمـلأ عـليّ أيّـام أسـبـوعي الأخـرى، وأذهـب إلى غـابـات الـنّـخـيـل
أو إلى ضـفـة الـنّـهـر الّـذي تـمـتـدّ حـولـه الـحـقـول الـخـضـراء والـذّهـبـيـة :
وشـيـئـاً فـشـيـئـاً تـآلـفـت مـعـهـا وأدركـت هـذا الـجـمـال الـغـريـب الّـذي يـغـلّـف الـتّـلال الّـتي تـبـدو لـمـن لا يـعـرفـهـا لا أشـكـال واضـحـة لـهـا، ولا تـكـشـف خـبـايـاهـا إلّا لـمـن يـتـأمّـلـهـا”، “وكـنـت أحـبّ الـذّهـاب إلى غـابـات الـنّـخـيـل الّـتي لـم أجـد الـوقـت لـرسـمـهـا في سـنـتـي الأولى هـنـا”.
“وقـد واجـهـت صـعـوبـات كـبـيـرة في الـتـقـاط الـضّـوء الـشّـديـد في رسـومي، والّـذي لـم أتـوصـل إلـيـه حـتّى بـتـضـاد الـضّـوء والـظّـل. ولـم يـكـن صـعـبـاً الـرّسـم في الـفـجـر أو عـنـد غـروب الـشّـمـس مـن غـيـر ضـوء مـبـاشـر فـالألـوان فـيـهـمـا رائـعـة الـجـمـال.
ولـكـن كـيـف يـمـكـنـني الـرّسـم في ضـوء الـنّـهـار الـبـاهـر ؟ وأغـلـب الـفـنّـانـيـن الّـذيـن رسـمـوا في الـشّـرق فـشـلـوا في ذلـك”.
وكـتـب في رسـالـة لـوالـديـه : “أرسـم بـالألـوان الـمـائـيـة في الـمـسـاء فـقـط، عـنـدمـا تـهـدأ الـرّيـاح الـشّـديـدة الـجـفـاف، فـالألـوان تـجـفّ هـنـا بـسـرعـة لا مـثـيـل لـهـا، ويـنـبـغي الـرّسـم بـسـرعـة أشـدّ مـنـهـا. ويـسـتـحـيـل الـرّسـم بـالـحـبـر الـصّـيـني لأنّـه يـجـفّ في الـقـلـم حـالـمـا يـخـرج مـن الـقـنـيـنـة، وهـو لا يـبـقى سـائـلاً حـتّى في الـقـنـيـنـة إلّا فـتـرة قـصـيـرة”. ومـع ذلـك فـقـد رسـم فـالـتـر أنـدريـه رسـوم كـاريـكـاتـور كـثـيـرة عـلى صـفـحـات “دفـاتـر الـزّوّار” مـن 1900 إلى 1902.
ولا نـجـد في رسـوم فـالـتـر أنـدريـه تـأثّـراً بـالـحـركـة الإسـتـشـراقـيـة في الـفـنّ الّـتي عـرفـتـهـا أوربـا في تـلـك الـفـتـرة، فـهـو لـم يـبـحـث في الـمـشـاهـد الـشّـرقـيـة عـن الـغـريـب الـمـثـيـر لـلـدّهـشـة، بـل رسـم الـطّـبـيـعـة كـمـا رآهـا والـنّـاس كـمـا عـرفـهـم. ونـجـد في رسـومـه تـأثّـراً بـأسـالـيـب مـدارس الـفـنّ الـحـديـثـة مـثـل الإنـطـبـاعـيـة في انـبـثـاق الـضّـوء مـن الألـوان أو الـوحـشـيـة في اسـتـعـمـالـه لـلألـوان الـصّـافـيـة.
وفي عـام 1901، عـهـد روبـرت كـولـدفـيـه إلى فـالـتـر أنـدريـه بـالإشـراف بـالـتّـنـاوب مـعـه عـلى الـتّـنـقـيـبـات الّـتي كـان يـقـوم بـهـا في بـابـل وفي بـيـرس نـمـرود (مـوقـع مـديـنـة بـورسـيـبـا الـقـديـمـة) وفي تـلّ فـارة (مـوقـع مـديـنـة شـروبـاك الـقـديـمـة)، مـمـا يـدلّ عـلى ثـقـتـه الـتّـامّـة بـه.
وقـد سـجّـل فـالـتـر أنـدريـه سـفـراتـه في تـلـك الـفـتـرة في رسـوم بـالألـوان الـمـائـيـة مـثـل رسـمـه لـ “خـان إمـام جـاسـم” أي الإمـام الـقـاسـم :
أو “سـوق مـشـهـد عـلي” في الـنّـجـف :
وقـد تـرك كـولـدفـيـه في الـعـام الـتّـالي، 1902، لـفـالـتـر أنـدريـه مـسـؤولـيـة الإشـراف لـوحـده عـلى تـنـقـيـبـات تـلّ فـارة، فـطـبّـق فـيـهـا مـا كـان قـد تـعـلّـمـه مـن أسـتـاذه.
وكـانـت فـارة في ذلـك الـحـيـن في مـنـطـقـة مـنـعـزلـة لـم يـكـن فـيـهـا لا مـكـتـب شـرطـة ولا مـكـتـب بـريـد، وكـانـت الـعـلاقـات بـيـن عـمـالـه مـتـوتـرة لأنّـهـم كـانـوا يـنـتـمـون إلى عـشـائـر تـتـنـافـس بـيـنـهـا. وقـد حـاول فـالـتـر أنـدريـه تـوثـيـق عـلاقـاتـه بـكـلّ شـيـوخ الـعـشـائـر مـهـمـا كـلّـفـه ذلـك، وهـو مـا كـان يـواجـهـه كـلّ الـمـنـقّـبـون.
وقـد راقـب طـريـقـة كـلام عـمـالـه وحـاول أن يـفـهـم بـعـض كـلـمـاتـهـم كـمـا حـاول مـعـرفـة عـاداتـهـم الإجـتـمـاعـيـة وفـهـمـهـا واحـتـرامـهـا تـحـاشـيـاً لـلـمـشـاكـل. ونـجـد وصـفـاً دقـيـقـاً لـكـلّ هـذا في الـيـومـيـات الّـتي كـان يـسـجّـلـهـا.
وقـد نـقّـب أيـضـاً في عـامي 1902 ـــ 1903 مـع هـايـنـرش E. HEINRICH في تـلّ “أبـو حـطـب” (مـوقـع مـديـنـة كـسـورة Kissur الـقـديـمـة) الـقـريـب مـن فـارة (3). وفي 1902 ذهـب إلى الـوركـاء وتـفـحّـص بـعـض آثـارهـا.
وفي عـام 1903 بـدأ كـولـدفـيـه تـنـقـيـبـات سـبـر في قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور، أقـدّم عـواصـم الإمـبـراطـوريـة الآشـوريـة)، عـلى الـضّـفـة الـمـقـابـلـة لـلـشّـرقـاط، ثـمّ عـهـد إلى فـالـتـر أنـدريـه بـالإشـراف عـلـيـهـا وإكـمـالـهـا. ولـكـنّ فـالـتـر أجـبـر عـلى تـرك الـعـراق في ذلـك الـعـام لـيـقـوم مـن جـديـد بـفـتـرة مـن الـخـدمـة الـعـسـكـريـة في ألـمـانـيـا الّـتي عـاد إلـيـهـا عـن طـريـق الـهـنـد.
تـنـقـيـبـات فـالـتـر أنـدريـه في قـلـعـة الـشّـرقـاط 1904 ــ 1914 :
غـادر فـالـتـر أنـدريـه ألـمـانـيـا مـن جـديـد في بـدايـة عـام 1904، ونـزل بـالـسّـيّـارة في شـهـر نـيـسـان مـن دمـشـق عـن طـريـق تـدمـر وجـبـل سـنـجـار إلى الـمـوصـل. ومـن الـمـوصـل نـزل عـلى كـلـك إلى قـلـعـة الـشّـرقـاط، وكـان كـولـدفـيـه قـد تـركـهـا وعـاد إلى بـابـل.
ولـم يـكـن في الـشّـرقـاط في ذلـك الـحـيـن لا مـكـتـب بـريـد ولا شـرطـة ولا طـبـيـب ولا حـتّى دكـاكـيـن بـقـالـة. وكـانـت الـمـوصـل عـلى مـسـيـرة يـومـيـن، وبـغـداد عـلى مـسـيـرة سـبـعـة أيّـام.
ونـظّـم فـالـتـر أنـدريـه ومـسـاعـدوه وعـمـالـه حـيـاتـهـم : يـخـبـزون خـبـزهـم في مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات ويـذبـحـون خـرفـانـهـم ويـذهـب بـعـضـهـم لـصـيـد الـسّـمـك في دجـلـة.
(بـيـت الـمـنـقـبـيـن في قـلـعـة الـشّـرقـاط عـام 1912)
وطـبّــق فـالـتـر أنـدريـه في تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور) مـا تـعـلّـمـه مـن روبـرت كـولـدفـيـه مـن الـمـنـاهـج الألـمـانـيـة الأكـثـر عـلـمـيـة وجـدّيـة في ذلـك الـحـيـن في الـحـفـريـات ورسـم خـرائـط الـمـواقـع ورسـم الـقـطـع الأثـريـة ووصـفـهـا.
(زقّـورة الإلـه آشـور في قـلـعـة الـشّـرقـاط)
ولـكـنّ صـعـوبـات جـديـدة واجـهـتـه، فـقـد وجـد طـبـقـات أقـدم بـكـثـيـر مـن تـلـك الّـتي نـقّـبـهـا مـع كـولـدفـيـه في بـابـل. وكـان عـلـيـه أن يـجـد حـلـولاً جـديـدة لـتـنـقـيـبـهـا وتـفـحّـصـهـا، وهـكـذا كـان الأوّل الّـذي نـمّى مـنـهـجـيـة الـتّـعـرف عـلى مـخـتـلـف طـبـقـات الـمـوقـع الّـتي تـنـتـمي إلى فـتـرات زمـنـيـة مـخـتـلـفـة تـتـابـعـت عـلـيـه. وقـد سـاعـدتـه هـذه الـمـنـهـجـيـة الـجـديـدة في الـتّـوصـل إلى نـتـائـج دقـيـقـة لأبـحـاثـه، مـثـلاً في دراسـة الـعـلاقـات بـيـن مـعـبـد عـشـتـار الـقـديـم ومـعـبـدهـا الـجـديـد.
وقـد اسـتـعـمـل فـالـتـر أنـدريـه كـلّ هـذه الـنّـتـائـج الّـتي لـم يـسـبـق لـهـا مـثـيـل في تـألـيـف كـتـابـه : “بـعـث آشـور ونـشـورهـا Das wiedererstandene Assur” (4)، كـمـا نـقّـب مـع مـسـاعـديـه في مـوقـع قـريـب مـن الـشّـرقـاط : “تـلـول عـقـر قـار تُـكـلـتي نـيـنـورتـا Tulul Akr-Kar Tululti Ninurta”، ونـشـر نـتـائـج الـتّـنـقـيـبـات، كـمـا نـشـر بـحـثـاً عـن تـفـحّـصـه لـمـوقـع الـحـضـر الّـذي زاره عـدّة مـرّات.
وخـلال الـسّـنـوات الـعـشـر الّـتي قـضـاهـا في الـشّـرقـاط لـم يـعـد فـالـتـر أنـدريـه إلى ألـمـانـيـا إلّا مـرتـيـن : في 1908 لـيـنـاقـش أطـروحـة الـدّكـتـوراه الّـتي قـدّمـهـا في جـامـعـة درسـدن،
(رسـم فـالـتـر أنـدريـه لـنـفـسـه عـام 1908)
كـمـا عـاد إلى بـرلـيـن في 1912 لـيـذهـب إلى مـتـحـفـهـا ويـرى تـقـدّم الـعـمـل في تـنـظـيـف وتـرمـيـم الـقـطـع الأثـريـة الّـتي أرسـلـت مـن الـتّـنـقـيـبـات في الـعـراق.
وكـان فـالـتـر أنـدريـه قـد مـارس كـمـا سـبـق أن رأيـنـا الـرّسـم بـالألـوان الـمـائـيـة خـلال إقـامـتـه في بـابـل مـن 1899 إلى 1903، ولـكـنّـه خـلال إقـامـتـه في قـلـعـة الـشّـرقـاط بـيـن عـامي 1904 و 1914 لـم يـرسـم بـالألـوان الـمـائـيـة إلّا نـادراً، وفـضّـل الـرّسـم بـأقـلام الألـوان عـلى أوراق مـلـوّنـة فـقـد اكـتـشـف أنّ الـخـلـفـيـات الـمـلـوّنـة تـسـاعـده في إظـهـار “روح الـطّـبـيـعـة”، مـثـل رسـمـه لـلـفـتـحـة، جـنـوب قـلـعـة الـشّـرقـاط عـام 1908 :
(قـلـعـة الـشّـرقـاط مـن الـشّـرق، 1909)
وقـد رسـم بـالألـوان الـمـائـيـة قـطـعـاً خـزفـيـة وجـدهـا في تـنـقـيـبـاتـه :
ونـشـرهـا في كـتـابـه : “خـزف مـديـنـة آشـور الـمـلـوّن”. (5)
وتـوقّـفـت تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط في 1914 بـعـد أن فـحـصـت كـلّ أجـزاء الـمـوقـع الـمـهـمّـة ورسـمـت مـخـطـطـاتـهـا وسُـجّـل كـلّ مـا عـثـر عـلـيـه في كـلّ طـبـقـة مـنـهـا بـالـتّـفـصـيـل في جـرد دقـيـق. وتـمّ نـقـل 700 صـنـدوق ضـخـم تـحـتـوي عـلى قـطـع أثـريـة عـلى أكـلاك نـزلـت عـلى دجـلـة إلى بـغـداد. وفي بـغـداد حـمّـلـت عـلى بـواخـر شـركـة الإخـوة لِـنـتـش (بـيـت لـنـج) The British Tigris Navigation Company الّـتي أوصـلـتـهـا إلى الـبـصـرة لـتـحـمّـل عـلى بـاخـرة تـنـقـلـهـا إلى ألـمـانـيـا.
وعـنـدمـا انـدلـعـت الـحـرب لـم تـكـن كـلّ الـصّـنـاديـق قـد حـمّـلـت بـعـد عـلى الـبـاخـرة، فـصـادرت الـقـوّات الـبـريـطـانـيـة مـا بـقي مـنـهـا عـلى أرصـفـة الـمـيـنـاء وأرسـلـتـهـا إلى الـمـتـحـف الـبـريـطـاني في لـنـدن. وقـرر قـبـطـان الـبـاخـرة الّـتي نـجـت مـن الـبـريـطـانـيـيـن أن يـوصـل مـا تـوصّـل إلى تـحـمـيـلـه مـن الـصّـنـاديـق إلى مـيـنـاء في بـلـد مـحـايـد، فـأنـزلـهـا في لـشـبـونـة في الـبـرتـغـال. ولـكـنّ الـبـرتـغـال دخـلـت الـحـرب عـام 1916 إلى جـانـب الـحـلـفـاء ضـدّ ألـمـانـيـا ودول الـمـحـور الأخـرى.
وكـانـت قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور الـقـديـمـة) آخـر مـوقـع نـقّـبـه فـالـتـر أنـدريـه. وقـد تـزوّج في ذلـك الـعـام، وقـرر أن يـكـرّس وقـتـه لإكـمـال نـشـر نـتـائـج الـتّـنـقـيـبـات ودراسـة الـقـطـع الأثـريـة الّـتي كـان قـد وجـدهـا وإعـادة تـركـيـب مـا تـكـسـر مـنـهـا وتـطـايـر شـظـايـا.
وسـأقـصّ عـلـيـكـم في الـمـقـال الـقـادم كـيـف تـوصّـل فـالـتـر أنـدريـه إلى إعـادة تـشـيـيـد بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب في قـاعـات مـتـحـف بـرلـيـن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أسـتـعـمـلُ تـعـبـيـر “بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن” بـدلاً مـن “الـعـراق الـقـديـم” لأنّ بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن كـانـت أوسـع بـكـثـيـر مـن حـدود دولـة الـعـراق الّـتي نـتـجـت عـن مـعـاهـدات سـايـكـس ــ بـيـكـو، وكـانـت تـضـمّ مـنـاطـق دخـلـت بـعـد ذلـك في حـدود سـوريـا وتـركـيـا وإيـران.
(2) كـانـت الـمـتـاحـف الـبـروسـيـة (الألـمـانـيـة) قـد طـلـبـت مـن روبـرت كـولـدفـيـه Robert KOLDEWE في عـام 1887 أن يـقـوم بـرحـلـة إلى بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن لـلـبـحـث عـن مـواقـع أثـريـة يـمـكـن تـنـقـيـبـهـا، كـمـا تـأسـسـت في بـرلـيـن ذلـك الـعـام “الـلـجـنـة الـشّـرقـيـة Das Orient-Comité” الّـتي كـان هـدفـهـا الـقـيـام بـتـنـقـيـبـات وإرسـال الـقـطـع الأثـريـة إلى الـمـتـاحـف الألـمـانـيـة، وقـامـت بـحـفـريـات مـن 1888 إلى 1902 في جـنـوب تـركـيـا وشـمـال سـوريـا.
وفي 1897 عـاد روبـرت كـولـدفـيـه إلى الـعـراق لـيـبـحـث مـن جـديـد عـن مـوقـع يـقـوم فـيـه بـتـنـقـيـبـاتـه، واخـتـار مـوقـع بـابـل. ورغـم أنّ الـمـوقـع كـان مـعـروفـاً زارتـه أعـداد كـبـيـرة قـبـلـه، وحـفـر بـعـضـهـم فـيـه بـحـثـاً عـن مـنـحـوتـات أو طـابـوق مـزجـج الألـوان تـغـطـيـه رسـوم أو نـقـوش مـسـمـاريـة، فـلـم يـكـن قـد نـقـب بـعـد بـطـريـقـة عـلـمـيـة.
وأنـشـئـت في بـدايـة عـام 1898 “الـجـمـعـيـة الألـمـانـيـة لـلـشّـرق Deutsche Orient-Gesellschaft” الّـتي كـان هـدفـهـا جـمـع الأمـوال الـلازمـة لـتـمـويـل تـنـقـيـبـات بـابـل. وقـد حـصـلـت الـجـمـعـيـة أيـضـاً عـلى مـسـاعـدات مـن الـدّولـة. وشـارك الإمـبـراطـور غـلـيـوم الـثّـاني في الـمـشـروع بـهـبـات مـالـيـة شـخـصـيـة، قـبـل أن يـصـبـح “حـامي” الـجـمـعـيـة عـام 1902.
(3) نـشـرا نـتـائـج تـنـقـيـبـات فـارة وأبـو حـطـب عـام 1931 في كـتـاب :
Der Ausgrabungen der Deutschen-Orient-Gesellschaft in Fra und Abu Hatab. 1902- 1903. Berline 1931.
(4) الـحـقـيـقـة أنّ الـكـلـمـة الأولى لـيـسـت مـصـدراً في الـلـغـة الألـمـانـيـة بـل نـعـتـاً، ويـنـبـغي تـرجـمـة الـعـنـوان بـشئ يـقـتـرب مـن : “مـديـنـة آشـور الـرّاجـعـة إلى الـحـيـاة” أو “الـقـائـمـة مـن تـرابـهـا”. وقـد صـدر الـكـتـاب في 1938، أي بـعـد سـنـوات طـويـلـة مـن نـهـايـة الـتّـنـقـيـبـات.
(5) صـدرت تـرجـمـة إنـكـلـيـزيـة لـهـذا الـكـتـاب في لـنـدن عـام 1925 بـعـنـوان :
(*) إسـتـعـمـلـت في كـتـابـة هـذا الـمـقـال مـصـادر عـديـدة أهـمـهـا كـتـاب بـويـهـمـر Boehmer :”رسـوم لـتـنـقـيـبـات أثـريـة Bilder eines Ausgräbers” الـصّـادر في بـرلـيـن عـام 1989.
قصة بوابة عشتار
كـيـف شـيّـد فـالـتـر أنـدريـه بـوابـة عـشـتـار في مـتـحـف بـرلـيـن
مدونة د. صـبـاح الـنّـاصـري - العراق في التاريخ
بـعـد أن أنـهى الـتّـنـقـيـبـات وعـاد إلى ألـمـانـيـا، في جـهـوده لـدراسـة الـقـطـع الأثـريـة الّـتي عـثـر عـلـيـهـا وفي نـشـر نـتـائـج الـتّـنـقـيـبـات الّـتي مـا زالـت تـعـتـبـر مـن الـمـصـادر الأسـاسـيـة لـدراسـة تـاريـخ بـابـل ومـديـنـة آشـور. وإلى جـانـب ذلـك اسـتـمـرّ في تـجـمـيـع كـسـر الـطّـابـوق الـمـزجـج الألـوان وإعـادة تـشـكـيـل صـور الـثّـيـران والـحـيـوانـات الـخـرافـيـة (الـتّـنـيـنـات) الّـتي كـانـت تـغـطي جـدران بـوابـة عـشـتـار والأسـود الـمـتـتـابـعـة عـلى جـانـبي درب الـمـسـيـرات.
وقـد صـمـم مـشـروعـه لإعـادة تـشـيـيـد “بـوابـة عـشـتـار” و “درب الـمـواكـب” في قـاعـات مـتـحـف بـرلـيـن عـلى الـورق بـعـشـرات الـتّـخـطـيـطـات والـرّسـوم الـمـائـيـة الّـتي مـا زال الـمـتـحـف يـحـتـفـظ مـنـهـا بـأعـداد كـبـيـرة (مـثـل رسـمـه لـلـبـوابـة الّـذي وضـعـتـه في بـدايـة الـمـقـال) حـتّى تـوصّـل إلى تـنـفـيـذه.
ومـا زال زوّار الـمـتـحـف يـتـأمـلـون بـذهـول الـبـوابـة الـمـتـلامـعـة الـزّرقـة بـثـيـرانـهـا وتـنـيـنـاتـهـا. ويـعـتـقـد أغـلـب هـؤلاء الـزّوار أنّ الـمـنـقـبـيـن خـلـعـوا الـبـوابـة مـن بـابـل ونـصـبـوهـا في بـرلـيـن ! وقـد قـلـدنـاهـا نـحـن أنـفـسـنـا ونـصـبـنـا مـنـهـا نـسـخـاً مـعـتـقـديـن أنّـهـا بـوابـتـنـا الأصـلـيـة !
وسـأعـيـد بـعـض مـا كـنـت قـد ذكـرتـه في الـمـقـال الـسّـابـق لـنـسـتـطـيـع مـتـابـعـة جـهـود فـالـتـر أنـدريـه مـن الـبـدايـة :
بـدايـات فـالـتـر أنـدريـه :
رأيـنـا في الـمـقـال الـسّـابـق كـيـف اخـتـار روبـرت كـولـدفـيـه Robert KOLDEWE الـمـسـؤول عـن بـعـثـة الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة في بـابـل فـالـتـر أنـدريـه لـيـسـاعـده كـرسّـام يـعـمـل مـعـه في الـمـوقـع.
ونـتـذكّـر كـيـف بـدأت الـتّـنـقـيـبـات في بـابـل في 26 آذار 1899، وفـيـهـا تـعـلّـم فـالـتـر أنـدريـه مـن كـولـدفـيـه مـنـاهـج الـتّـنـقـيـبـات الـحـديـثـة. وكـانـت تـلـك بـدايـة حـيـاة جـديـدة لـه كـرّسـهـا حـتّى وفـاتـه لـدراسـة آثـار بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن. كـمـا تـعـلّـم مـن كـولـدفـيـه طـريـقـة رسـم الآثـار والـقـطـع الأثـريـة.
ونـتـذكّـر أيـضـاً كـيـف بـدأ روبـرت كـولـدفـيـه تـنـقـيـبـاتـه الـبـابـلـيـة في تـلّ الـقـصـر الّـذي وجـدت فـيـه كِـسـر طـابـوق جـعـلـتـه يـخـمّـن أن الـمـوقـع كـان عـلـيـه بـنـاء مـهـمّ غـطّـت جـدرانـه قـطـع فـنّـيـة شـديـدة الـدّقّـة والـمـهـارة عـلـيـهـا تـصـاويـر حـيـوانـات خـرافـيـة “تـنّـيـنـات” وثـيـران قـلـيـلـة الـبـروز. وكـان بـعـض هـذا الـطّـابـوق مـزجـج الألـوان مـسـطـحـاً أو عـلـيـه تـصـاويـر قـلـيـلـة الـبـروز. وقـد عـهـد كـولـدفـيـه إلى فـالـتـر أنـدريـه بـإعـادة تـركـيـب الـطّـابـوق الـمـزجـج الّـذي وجـده مـهـشـمـاً في الـمـوقـع.
وأدرك كـولـدفـيـه أن شـظـايـا الـطّـابـوق تـسـاقـطـت مـمـا كـان في الـمـاضي بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب الّـذي كـان يـفـضي إلـيـهـا، والّـذي كـان مـرصـوفـاً بـالـحـجـارة وعـلى جـانـبـيـه جـداران مـن الـطّـابـوق. وكـان درب الـمـواكـب يـمـتـدّ مـسـتـقـيـمـاً عـلى حـوالي 900 مـتـراً، تـزيـنـه أسـود مـتـتـابـعـة مـن الـجـانـبـيـن. ويـقـدر عـدد هـذه الأسـود في زمـن إعـادة نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني (حـكـم مـن 605 إلى 562 قـبـل الـمـيـلاد) لـتـشـيـيـد الـدّرب بـحـوالي 120 أسـداً.
وكـانـت بـوابـة عـشـتـار في الـحـقـيـقـة بـوابـتـيـن تـنـفـتـحـان الـواحـدة عـلى الأخـرى مـن جـانـبي الـسّـور الـمـزدوج. وبـعـد أن أزيـحـت أطـنـان مـن الـتّـراب ظـهـرت الـبـوابـة الـدّاخـلـيـة الّـتي يـفـضي إلـيـهـا درب الـمـواكـب، وكـانـت لا تـزال تـرتـفـع 12 مـتـراً، تـزيـنـهـا صـفـوف يـعـلـو الـواحـد مـنـهـا الآخـر مـن الـثّـيـران والـتّـنـيـنـات.
(بـقـايـا بـوابـة عـشـتـار في بـابـل عـام 1932، صـورة مـن مـجـمـوعـة إريـك مـاتـسـون)
(تـخـطـيـط رسـمـه روبـرت كـولـدفـيـه في الـمـوقـع)
وقـد اسـتـنـتـج الـمـنـقّـبـون أنّـه كـان عـلـيـهـا في الأصـل 575 ثـوراً وتـنـيـنـاً عـلى 13 صـفّ. ولأنّ الـدّرب رفـع مـسـتـواه عـدّة مـرّات فـقـد غـارت الـصّـفـوف الـسّـفـلى مـن الـحـيـوانـات الـبـارزة الـنّـحـت في بـاطـن الأرض.
وكـان الأزرق الـلـون الأكـثـر اسـتـعـمـالاً وخـاصـة في الـخـلـفـيـات، أمّـا الـحـيـوانـات فـقـد كـانـت تـتـتـابـع أمّـا بـيـضـاء أو بـنّـيـة مـصـفـرّة. وكـان الأسـد رمـزاً لـلإلـهـة عـشـتـار والـتّـنـيـن الـثّـعـبـاني الـرأس رمـز الإلـه مـردوخ، أمّـا الـثّـور فـقـد كـان رمـز الإلـه حـدّاد (أداد).
وكـان الـطّـابـوق الّـذي جـمّـعـه فـالـتـر يـصـوّر أسـوداً حـولـهـا زهـور مـنـقـوشـة كـانـت تـغـطي جـوانـب درب الـمـسـيـرات،
ويـصـوّر أسـوداً حـولـهـا سـعـف وأغـصـان لـولـبـيـة كـانـت عـلى واجـهـة قـاعـة الـعـرش.
وبـعـد أن اشـتـغـل فـالـتـر أنـدريـه عـلى شـظـايـا الـطّـابـوق عـامـاً كـامـلاً يـضـع الـقـطـع الـصـغـيـرة الـواحـدة بـجـنـب الأخـرى ويـؤلـف بـيـنـهـا اسـتـطـاع إعـادة تـركـيـب بـعـضـهـا، ولـو جـزئـيـاً.
وكـان، إلى جـانـب اشـتـغـالـه لـيـلاً ونـهـاراً بـإعـادة تـركـيـب شـظـايـا الـطّـابـوق لإيـجـاد ألـوان الأسـود الـبـابـلـيـة، يـرسـم مـخـطـطـات الـمـواقـع والـقـطـع الأثـريـة ويـسـاعـد كـولـدفـيـه في أعـمـال الـتّـنـقـيـبـات الأخـرى.
وقـد اسـتـمـرّ فـالـتـر أنـدريـه في الـعـمـل في بـابـل إلى عـام 1903، ثـمّ عُـهـد إلـيـه بـالأشـراف عـلى تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور الـقـديـمـة، أولى عـواصـم الـدّولـة الآشـوريـة) والّـتي قـادهـا حـتّى عـام 1914.
سـنـوات الـحـرب الـعـالـمـيـة الأولى :
وبـعـد أن انـدلـعـت الـحـرب الـعـالـمـيـة الأولى، إسـتـدعي فـالـتـر أنـدريـه لـيـشـارك فـيـهـا. وأرسـل إلى جـبـهـة الـقـتـال في فـرنـسـا عـام 1915، ثـمّ أرسـل لـيـخـدم تـحـت أوامـر الـفـيـلـد مـارشـال فـون ديـر غـولـتـس الـمـعـروف بـغـولـتـس بـاشـا (أو غـولـتـز بـاشـا لـلّـذيـن لا يـحـسـنـون الـلـفـظ الألـمـاني) الّـذي عـهـد إلـيـه بـقـيـادة جـيـش عـثـمـاني كـان يـحـاول إيـقـاف تـقـدّم الـقـوات الـبـريـطـانـيـة أمـام الـكـوت. وقـد بـعـث لـه الـجـيـش الألـمـاني بـعـض عـلـمـاء الآثـار الّـذيـن نـقّـبـوا في الـعـراق كـمـسـتـشـاريـن لـيـنـتـفـع مـن تـجـاربـهـم ومـعـرفـتـهـم بـالـبـلـد وأهـلـه. وهـكـذا نـزل فـالـتـر أنـدريـه مـن حـلـب في مـركـب عـلى الـفـرات نـحـو بـغـداد.
وقـد نـجـح غـولـتـس بـاشـا في حـصـار الـبـريـطـانـيـيـن في الـكـوت وهـزمـهـم هـزيـمـة كـامـلـة. وقـضى فـالـتـر أنـدريـه سـنـوات الـحـرب بـيـن الـعـراق وسـوريـا وفـلـسـطـيـن، مـا عـدا إجـازة قـصـيـرة عـاد فـيـهـا إلى أوربـا لـرؤيـة زوجـتـه وابـنـه الـصّـغـيـر. وقـضـوا جـزءاً مـنـهـا عـلى سـواحـل بـحـيـرة كـونـسـتـانـس الّـتي تـقـع بـيـن ألـمـانـيـا والـنّـمـسـا وسـويـسـرة. وهـنـاك اشـتـرى مـنـزلاً ريـفـيـاً صـغـيـراً قـبـل أن يـعـود إلى جـبـهـة الـشّـرق.
وبـعـد أن خـسـر الألـمـان وحـلـفـاؤهـم الـعـثـمـانـيـون الـحـرب، أعـيـد مـن لـم يـقـتـل مـن الـجـنـود والـضّـبـاط إلى ألـمـانـيـا عـام 1919.
عـلى سـواحـل بـحـيـرة كـونـسـتـانـس :
وقـضى فـالـتـر أنـدريـه سـنـتـيـن، مـن 1919 إلى 1921 في مـنـزلـه قـرب بـحـيـرة كـونـسـتـانـس يـنـظّـم مـلاحـظـاتـه الّـتي كـان قـد سـجّـلـهـا عـن تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط، ويـكـمـل مـا مـنـعـتـه سـنـوات الـحـرب مـن إكـمـالـه لـنـشـر نـتـائـجـهـا ودراسـة الـقـطـع الأثـريـة الّـتي كـان قـد وجـدهـا وإعـادة تـركـيـب مـا تـكـسـر مـنـهـا وتـطـايـر شـظـايـا. وقـد فـكّـر خـلال سـنـتَي الـبـطـالـة تـلـك أن يـفـتـح مـرسـمـاً ويـمـتـهـن الـفـنّ.
في مـتـحـف بـرلـيـن :
وعـنـدمـا قـرر روبـرت كـولـدفـيـه عـام 1921 أن يـتـوقّـف عـن الإشـراف عـلى قـسـم آثـار الـشّـرق الأدنى في مـتـحـف بـرلـيـن، بـعـد سـنـوات طـويـلـة مـن جـهـود مـتـواصـلـة في عـلـم الآثـار، اقـتـرح أن يـحـلّ فـالـتـر أنـدريـه مـحـلّـه. وعـيّـن فـالـتـر الّـذي وصـل إلى بـرلـيـن لـلإقـامـة فـيـهـا مـع عـائـلـتـه. وبـدأ، إلى جـانـب الـمـحـاضـرات الّـتي طـلـب مـنـه أن يـلـقـيـهـا عـلى طـلاب مـعـهـد الـتّـقـنـيـة، بـالـعـمـل مـع مـسـاعـديـه عـلى صـنـاديـق قـطـع الآثـار الّـتي جـلـبـت مـن تـنـقـيـبـات الـعـراق وخـزنـت في الـمـتـحـف.
وفي عـام 1925، إسـتـطـاع أن يـقـنـع الـمـسـؤولـيـن الـبـرتـغـالـيـيـن بـإعـادة الـصّـنـاديـق الّـتي تـحـتـوي عـلى الـقـطـع الأثـريـة الّـتي كـان قـد وجـدهـا في تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط والّـتي حـمّـلـت في الـبـصـرة، كـمـا سـبـق أن ذكـرنـا، عـلى بـاخـرة أوصـلـتـهـا إلى لـشـبـونـة.
وبـعـد أن تـوفي روبـرت كـولـدفـيـه عـام 1925، أصـبـح فـالـتـر أنـدريـه مـشـرفـاً عـلى نـشـر مـا لـم يـكـتـمـل نـشـره بـعـد مـن نـتـائـج تـنـقـيـبـات بـابـل إلى جـانـب عـمـلـه في إكـمـال جـرد الآثـار الّـتي وجـدهـا في قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور) وتـصـنـيـفـهـا.
وفي حـوالي مـنـتـصـف عـام 1926، وصـلـت إلى بـرلـيـن رسـالـة مـن جـيـرتـرود بـيـل Gertrude Bell تـذكـر فـيـهـا أنّ الـحـكـومـة الـعـراقـيـة قـررت إعـادة الـصّـنـاديـق الـضّـخـمـة الّـتي تـحـتـوي عـلى الـقـطـع الأثـريـة الّـتي عـثـر عـلـيـهـا الألـمـان في تـنـقـيـبـات بـابـل وبـقـيـت فـيـهـا مـنـذ 1917 ! وكـانـت الـصّـنـاديـق تـحـتـوي عـلى حـوالي 300 ألـف كـسـرة مـن الـطّـابـوق، وبـعـضـه مـزجـج الألـوان، الّـتي عـثـر عـلـيـهـا في تـلّ الـقـصـر.
وكـانـت جـيـرتـرود بـيـل قـد زارت الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة في بـابـل عـام 1909،
كـمـا زارت مـرتـيـن في تـلـك الـفـتـرة تـقـريـبـاً مـوقـع تـنـقـيـبـات قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور) وربـطـتـهـا عـلاقـات صـداقـة بـفـالـتـر أنـدريـه.
وصـادف أن أفـرغ الـجـنـاح الـجـنـوبي مـن قـسـم آثـار الـشّـرق الأدنى في تـلـك الـفـتـرة، ونـقـلـت الآثـار الـمـصـريـة الّـتي كـانـت فـيـه إلى جـانـب آخـر مـن مـتـحـف بـرلـيـن، فـسـنـحـت الـفـرصـة لـتـخـصـيـص هـذا الـجـنـاح لآثـار بـابـل وقـلـعـة الـشّـرقـاط (مـديـنـة آشـور) وطـرحـت فـكـرة إعـادة تـشـيـيـد بـعـض الـمـبـاني الـقـديـمـة فـيـه.
وقـد قـررت الـحـكـومـة الألـمـانـيـة إرسـال فـالـتـر أنـدريـه إلى بـغـداد لـتـنـظـيـم عـمـلـيـات نـقـل الـصّـنـاديـق إلى بـرلـيـن، واخـتـارت لـمـسـاعـدتـه عـالـم الآثـار يـولـيـوس يـوردان Julius Jordan.
وفي الـطّـريـق، سـمـع فـالـتـر أنـدريـه بـوفـاة جـيـرتـرود بـيـل، ولـكـنّـه، عـنـدمـا وصـل إلى بـغـداد، وجـد أنّ الـمـسـؤولـيـن في الـعـراق لـم يـغـيـروا رأيـهـم في إرسـال الـصّـنـاديـق إلى بـرلـيـن.
وذهـب إلى بـابـل ووجـد الـصّـنـاديـق بـكـامـلـهـا في بـيـت الـمـنـقّـبـيـن، ولـكـنّ أغـلـب أخـشـابـهـا كـانـت قـد اهـتـرأت وتـكـسّـرت. وعـنـدمـا سـمـع عـمّـالـهـم الّـذيـن كـانـوا مـعـهـم في الـتّـنـقـيـبـات بـرجـوع فـالـتـر أنـدريـه جـاءوا مـن الـحـلّـة والـقـرى الـقـريـبـة مـنـهـا لـيـحـيـوه ولـيـسـاعـدوه في إصـلاح الـصّـنـاديـق،
وفي نـقـل الـقـطـع الأثـريـة عـلى مـتـن مـركـب نـقـلـهـا إلى الـبـصـرة.
وفي 20 كـانـون الـثّـاني 1927، وصـل إلى بـرلـيـن 536 صـنـدوقـاً مـن بـابـل كـان بـيـنـهـا 400 مـلـيـئـة بـكـسـر طـابـوق مـزجـج الألـوان.
ونـتـج أيـضـاً عـن زيـارة فـالـتـر أنـدريـه لـبـغـداد تـوصـلـه إلى إقـنـاع الـمـسـؤولـيـن بـقـبـول بـعـثـة ألـمـانـيـة لإكـمـال الـتّـنـقـيـبـات الّـتي كـان قـد بـدأهـا مـع زمـلائـه في الـوركـاء عـام 1913. وبـدأت الـحـفـريـات في الـعـام الـتّـالي، 1928، وأشـرف عـلـيـهـا فـالـتـر أنـدريـه مـن مـكـتـبـه في بـرلـيـن.
وقـد بـدأت جـهـود فـالـتـر أنـدريـه في إخـراج حـطـام الـطّـابـوق مـن صـنـاديـقـهـا وتـجـمـيـعـهـا لـتـشـكّـل مـنـحـوتـات قـلـيـلـة الـبـروز في نـهـايـة عـام 1927. وقـد جـرت هـذه الأعـمـال في إحـدى قـاعـات الـمـتـحـف.
ونـظّـفـت الـقـطـع ورتّـبـت لـتـكـوّن صـور حـيـوانـات ونـبـاتـات وأشـكـال زخـرفـيـة ثـمّ جـمـعـت في ألـواح واسـعـة. ولـمـلأ الـفـراغـات والـثّـغـرات الـواسـعـة طـلـب فـالـتـر أنـدريـه مـن ثـلاثـة مـعـامـل لـصـنـع الـخـزف في بـرلـيـن أن تـحـاول الـتّـوصـل إلى إنـتـاج طـابـوق مـزجـج الألـوان يـقـتـرب مـمـا كـان يـصـنـعـه الـبـابـلـيـون.
واشـتـغـل فـالـتـر أنـدريـه في نـفـس الـوقـت في تـخـطـيـط مـشـروعـه لإعـادة تـشـيـيـد بـوابـة عـشـتـار
ودرب الـمـواكـب ورسـمـه بـالألـوان الـمـائـيـة،
ولـكـنّ أوّل عـائـق صـادفـه هـو أنّـه لا يـسـتـطـيـع تـوسـيـع مـقـايـيـس قـاعـات الـمـتـحـف الّـتي وضـعـت تـحـت تـصـرفـه، فـكـان عـلـيـه أن يـعـدّل مـقـايـيـس مـشـروعـه لـيُـركّـب بـوابـة ودربـاً أصـغـر في قـاعـات الـمـتـحـف !
واسـتـمـرّ الـعـمـل عـلى تـركـيـب الـطّـابـوق مـن الـكـسـر الـمـهـشـمـة وتـشـكـيـلـهـا في صـور مـقـبـولـة الأشـكـال وفي ألـواح واسـعـة لـتـشـيـيـد الـبـوابـة والـدّرب حـتّى بـدايـة ثـلاثـيـنـيـات الـقـرن الـمـاضي. وقـلّـت الـمـبـالـغ الـمـخـصـصـة لـهـا، مـمـا أجـبـر فـالـتـر أنـدريـه عـلى إضـاعـة جـزء مـن وقـتـه في مـفـاوضـات مـسـتـمـرة مـع مـسـؤولي وزارة الـمـالـيـة.
ولـكـثـرة الـقـطـع الـمـحـطّـمـة الّـتي جـلـبـت مـن بـابـل الّـتي ركّـبـت مـنـهـا تـصـاويـر حـيـوانـات ونـبـاتـات والّـتي فـاضـت عـن احـتـيـاج فـالـتـر أنـدريـه لإعـادة تـشـيـيـد بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب بـالـمـقـايـيـس الّـتي أُجـبـر عـلى تـصـغـيـرهـا، فـقـد اقـتـرح إهـداء بـعـضـهـا لـلـمـتـحـف الـعـراقي في بـغـداد وبـيـع مـا تـبـقى مـنـهـا لـمـتـاحـف أوربـيـة وأمـريـكـيـة. وهـكـذا اسـتـطـاع بـالـمـبـالـغ الـمـكـتـسـبـة الاسـتـمـرار في مـشـروعـه.
وقـد اسـتـمـرّ فـالـتـر أنـدريـه مع مـسـاعـديـه بـالـقـيـام بـعـدد مـن الـمـهـمّـات في نـفـس الـوقـت : جـرد الـقـطـع الأثـريـة الّـتي عـثـر عـلـيـهـا في مـوقـع الـوركـاء مـنـذ عـام 1928 وتـصـنـيـفـهـا والإشـراف عـلى نـشـر نـتـائـجـهـا، إلى جـانـب نـشـره لـدراسـاتـه عـن آثـار قـلـعـة الـشّـرقـاط (مـوقـع مـديـنـة آشـور الـقـديـمـة)، والإشـراف عـلى أعـمـال الـبـنـاء في قـاعـات آثـار بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن، وتـدريـسـه في مـعـهـد الـتّـكـنـولـوجـيـا في بـرلـيـن.
وقـد اكـتـمـل في عـام 1930 تـشـيـيـد الأجـزاء الـرّئـيـسـيـة مـن الـمـشـروع : بـوابـة عـشـتـار بـارتـفـاعـهـا الـبـالـغ 14 مـتـراً و 73 سـم. وبـعـرض 15 مـتـراً و 70 سـم. :
ودرب الـمـواكـب الّـذي امـتـدّ داخـل الـمـتـحـف 30 مـتـراً وبـعـرض ثـمـانـيـة أمـتـار. ويـرتـفـع الـجـداران الـمـحـيـطـان بـه 12 مـتـراً و 50 سـم. :
بـيـنـمـا اسـتـمـرّ الـعـمـل عـلى الأجـزاء الـبـاقـيـة.
وفي عـام 1932، قـام فـالـتـر أنـدريـه بـسـفـرة إلى سـوريـا والـعـراق زار خـلالـهـا الـتّـنـقـيـبـات الأثـريـة وخـاصـة تـنـقـيـبـات الألـمـان في الـوركـاء.
وفـتـحـت الـقـاعـات الـبـابـلـيـة لـزوّار مـتـحـف بـرلـيـن بـعـد اكـتـمـالـهـا الـنّـهـائي عـام 1936.
خـلال الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة :
وعـنـدمـا انـدلـعـت الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة عـام 1939، وضـعـت كـل قـطـع الـمـتـحـف الأثـريـة في صـنـاديـق لـتـحـفـظ في قـاعـات مـحـصّـنـة بـيـنـمـا شـيّـدت جـدران مـن الـطّـابـوق لـحـمـايـة بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب والأجـزاء الـمـشـيّـدة الأخـرى. ولـكـنّ قـصـف بـرلـيـن في نـهـايـة الـحـرب، والّـذي أدّى إلى انـهـيـار أجـزاء مـن الـمـتـحـف، عـرّض الأجـزاء الـمـشـيّـدة في الأقـسـام الـبـابـلـيـة لـلـتـخـريـب والـقـطـع الأثـريـة لـلـنـهـب. ولـم يـسـلـم مـا تـبـقى مـنـهـا إلّا بـعـد أن دخـلـت الـقـوّات الـسّـوفـيـتـيـة بـرلـيـن ووضـعـت جـنـوداً لـحـراسـة الـمـتـحـف والـكـنـوز الّـتي يـحـتـوي عـلـيـهـا.
وقـد أعـيـد بـعـد انـتـهـاء الـحـرب تـشـيـيـد مـا تـهـدّم مـن الـمـتـحـف، وتـرمـيـم مـا تـخـرّب مـنـه، وأعـيـدت مـجـمـوعـات الـقـطـع الأثـريـة إلى قـاعـاتـهـا ورمـمـت بـوابـة عـشـتـار ودرب الـمـواكـب ومـا تـبـقى مـن واجـهـة قـاعـة الـعـرش، وهـو مـا يـمـكـن لـكـلّ زوار الـمـتـحـف أن يـتـأمـلـوه في أيّـامـنـا هـذه.
وفي عـام 1946، وكـان في الـحـاديـة والـسّـبـعـيـن مـن عـمـره، عـيّـن فـالـتـر أنـدريـه أسـتـاذاً لـلـهـنـدسـة الـمـعـمـاريـة وتـاريـخ الـمـعـمـار في مـعـهـد بـرلـيـن الـتّـكـنـولـوجي الّـذي أصـبـح “الـجـامـعـة الـتّـكـنـولـوجـيـة”، واسـتـمـرّ في الـتّـدريـس إلى عـام 1951، ثـمّ أصـبـح رئـيـسـاً فـخـريـاً لـلـجـامـعـة عـام 1952، أربـع سـنـوات قـبـل وفـاتـه عـام 1956.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
Comments powered by CComment